(  النصوص الأدبية )

******* لنضال الهمالي *******

 

 

 

كشوفات الليل 

لا أحد منكم يستطيع أن ينسى تلكم الأيام التي كانت تنزل فيهما الآلهة إلى الأرض ... أيامًا شهِدنا فيها أصوات تراتيل المعابد وعزف الملائكة فوق الغيوم ... أمّا اليوم ... فلن تبرحوا الأبدان إلاّ بألآم وأوجاع، ولن تظفروا بكنوز الربّ إلاّ بعد غوص أعوام في محيطات عقولكم الهائج متحديين أمواج أفكاركم العاتية ... ردائي الطويل المُمزق الذي تضربه الرياح يحكي لكم قصة أهوال تلكم الطُرقات ... كل أثار الجروح في جسدي تحكي لكم حجم أنياب الوحوش التي قابلتُها في الطريق ... الحق أقول لكم .. تهاجر الأجزاء إلى الكُلّ كما تهاجر الأمواج إلى الشواطئ.  فالمقصود ليس أقدم من القاصد في القدِم، وإن كان القاصد المُتحرك مُحدث الوجود ولكن جوهره بقِدم المقصود. تتشتت الحواس من كثرة الأشكال والحركات المستمرة من مدارككم الخمس ... شيّدوا الحواس وحينها لن تجدوا إلاّ إنكم أنتم تلك الحركات الظاهرة ولكنّهم سكَنُوا بسكونكم في الباطن ... العيون المُتحركة تُحدق في السماء بحثًا عن جسّم ضخم مُتحرك، والعيون الساكنة المُغّمَضة تُحدق في فراغ أبدي ساكنّ ... ولتعلموا أنه لن تبرح الغشاوة عن قلبًا مهجورًا منّسي وإن كان رأس البدن شبه سويّ ... غِشاوة القلب تُسكر العقل بالجهل وتسقي النفوس برغبة الحروب. أتعلمون لما رحلت الآلهة عن الأرض منذ ذلك الزمن؟ ... لأن البشر اكتفوا بلعن شارب الخمّر الذي يزول سُكره بعد سويعات، وتناسوا لعن قلوبهم التي سكِرتّ بخمّر الجهل الذي لن يزول مفعوله إلاّ بعد عصور وأجيال ... ماذا أقول في هؤلاء، غير أنهم كانوا قد هربوا من الحق في قلوبهم إلى شيء أخر تخيّلوه في رؤوسهم وظنّوا أنه الحق ... فانصتوا إلى ما تعلّمته من الآلهة في أحد ليالي الكسوف ... لو كان الحقّ يُدرك بطول اللحية، لكان التيّسُ سيد العارفين ... قصّر من عُلُوّا صوتك لا من طول ثوبك ... أغسل حُنجرتك من أثار الشتم قبل أن تغسل بدنك من أثار الجنابة ... وأنتِ ... تحجّبي عن النميمة وتستّري عن البوح بسرًا مدّفون قبل أن تُحجبي شعّرَكِ عن الأنظار والعيون. فالحق أقول لكم ... لولا الظلام لما تنعمّتم بهدوء هذا الليل، ولولا النور لما قصدتّم ترحالكم في صباح الأرض ... حلّقوا كما تُحلّق الطيور مُناجية شمس الشروق، واقصدوا القمر في كل ليلةً كما يقصده البوم .... يا ليت شِعّرِي، كيف سيجدون شمّعتكَ المشتعلة في الظلمة وهُم لا يُبصرون، وكيف سيجدون ظِلالك في النور وهم في قبور أجدادهم غارقون، وكيف سيجدونك خلف تقلبات الليل والنهار وهم عن تلك العوالم غافلون.

 

أهل الطريق، وديوان العشق العتيق

 

تكتّمتُ بأسرار الوجود، خشية إساءة فهم مقاصدي العميقة.

وربطّتُ لساني الذي لم يقدر على سرد ما ينعم به وجدان قلبي من حقيقة.

 

واعتكفت بين أضلُعي حيث يتواجد قلبي سر عرفاني ورؤياي.

فحُب قلبي، هو وحده القادر على أن يُشبع العطشان من نبيذ عشقي ونجواي.

 

فلم أشعر بطول مسافة طريق العشق، التي لا يوجد فيها مكاناً ولا زمان.

فسلكت الطريق راقصاً بين سماء الوجود، كاتباً عنها أبيات شعراً وديوان.

 

فلّ تشرق الشمس من المغرب، وإن شاءت فل تغرب من الشرق. 

وإن شئتِ أيتها الأرض، فثوري! واضربي في سماءك الرعد والبرق.

 

فمهما سعوا البشر في الأرض فساداً وبلغوا بها الأفاق.

فلن يؤثر ذلك في تعكير صفوا أهل الطريق الذين أصبحوا عُشّاق.

 

أتذكر تلك الليلة التي ذُبّت فيها في الوجود ولم أعد أرى نفسي.

فقال الوجود " أنا هو أنت، وأنت هو أنا، فلا توجد نفسك ولا نفسي".

 

فندبّت وصرخت هولاً قائلاً بعظّمِ لساني: " يا ويلتاه!، فما هذا الذي أنا مُقبلاً عليه.

فأنا كحبة الزبيب التي لا تكاد أن تُرى في هذا الكون الفسيح الذي لا نهاية له.

 

فلما أخترتني لضعف قوتي، ولصغر سنّي من بين الخلق أجمعين.

 

فأنا عربيداً، أعانق النساء، وأرتوي بالنبيذ الأحمر عندما يُسمع ناقوس الليل ويسقط الجميع نيام.

 

فقال الوجود: " لقد أخترتك لقلبك الذي لا يسّكر مهما شرب من كؤوس النبيذ. ولقلبك الذي إذا عانق، عانق بحب وذاب في المعنوق، كما يذوب السُكَّر في الماء ولا يتبقى منه شيئاً ولا أثر.

 

فاشتد صراخي، وزادي نواحي هولاً وخوفاً مما أسمعه من صوت الوجود الذي يتحدث في قلبي.

 

وكأن عيناي بدأت ترى نجوم السماء التي تشكّلت على شكل جسر، مكتوباً في أعلاه رسالةً عتيقةً تقول: " امشي بأقدامك على هذا الجسر الذي سيحولك من أنساناً أرضياً إلى روحاً سماويةً في أعلاه.

 

فاتخذت خطواتي أتجاه سلك جسر الحقيقة الذي سرعان ما ظل يأخذ أقدامي لقمته السماوية.

 

ومع كل خطوةً أخطوها تذّرف عيناي دمعاً، وتتفتح فيه دراعي أكثر وأكثر، حتى وجدت نفسي أدور حول جسدي وأقول: " يا مرحباً بالملكوت الذي خطفني من أهلي وأصدقائي، فيا ويحثاه، فقد أحببتك أكثر من أمي وأبي الذين يغطّون في نوماً عميقً في هذه الليلة الباردة. فأشهد أن دراعي لم تحضن أي حضناً أكثر دفئاً من حضنك الذي جعلني أذوب ولا يتبقى مني شيئاً.

فإنك تؤخذني بهدوء ولطف إليك، كما تؤخذ الأم رضيعها إلى ثديها لتُغدّيه بما لا يتواجد في غيرها".

 

فهنالك ذُبت، وهنالك قُضي عليّ، وانكسر المنطق في وجداني، واحتضر عقلي الذي كان يوهمني أنه يرى الحقيقة بنوافذ الرأس وهما العينان والاذنان.

 

ورأى قلبي مالا تراه عيون عامة البشر ...

 

حتى أدركت أن للقلب عيناً ترى مالا تراه العيون التي تسكن في مقدمة الوجه.

 

فالعين يمكن أن يصيبها العمى من وهج الوجود وجماله، فتنطفأ ويضيع بريقها.

أما عين القلب فترى مالا تراه العيون، وتسمع مالا تسمعه الأذنان.

 

وإن طن الإلهام في القلب، لاستمعت الروح إلى الرسالة بكل جوانبها وجوارحها لصوت الوجود الذي لا لسان له لينطق به. غير همسات تؤخذك لبستان العارفين الذين عرفوا مالا يعرفه عامة العارفين من البشر.

 

فهنالك تختفي، وهنالك خلودك الذي لا يفنى، وعبيرك الذي لا تنتهي رائحته الزكية مهما أشتد عطرها وزاد بريق جمالها وهجاً واشراقا.

 

ذلك هو العشق ...

 

حيث استسلمت للوجود وانفجر العشق بداخلي قائلاً: " أنت تستسلم لأنت، ولكنك لا تدري".

 

فأدركت أن كينونة الوجود هي روح الأنسان والنبات والحيوان والجماد، وكل ما يهب على الأرض، وكل ما هو ساكناً ولا يتحرك.

حيث أصبح كل ما حولي بهجةً واحتفالاً، كما يحتفل الجسد بكل نبضةً ينبضها القلب، مما تجعله حياً لثانيةً أخرى.

 

فلا أحد يضمن الشهيق بعد إخراج الزفير، ولكن يمكنك أن تضمن استمتاعك بالزفير، حتى لو لم يتبعه الشهيق في المقابل من الجهة الأخرى.

 

فالعاشق يعيش في عشق الوجود بكل ما تحمله الكلمات من معنى. ويضرب البنّدير ضربتً في منتصف الليالي، لتجعل الروح تقف راقصةً بخُصّرها الذي يترنح مع كل ضربةً يضربها العاشق على البندير. الذي يوقظ الروح من سُبات العقل والنوم في الجسد الخامل.

 

فديواني الذي تكتبه أصابعي هو أنثوياً بالمطلق. ففقط الأنثوية التي من المشاعر قد صُنِعت، تفهم معنى الغوص في بحر الروح.

فطوبى لكل ذكراً أيقظ الأنثى التي فيه، ورقص معها رقصة العشق تحت ضوء البدر المُكتمل، بين ضفاف البحيرة التي ترقص أسماكُها وحيتانها من طرب العشاق وتمايلهم في العشق الوجودي.

حيث يدور الجسد حول نفسه بدون مللاً او كللاً أو تعب. ومع كل لفةً يلتف فيها الجسد على نفسه يتحول إلى بركان من الحب، الذي تفيض قمّته بنار الحقيقة التي من حرارتها، تَحوّل لونها إلى الأحمر.

 

وتفيض مشاعره عشقاً، كما يفيض المحيط معبراً عن بهجته على هيئة طوفان ينفجر، ليمتد طوفانه إلى الصحراء القاحلة، فيشرب منه كل من في الخيام البعيدة هناك.

 

فالعشق ليس أكثر من انفجار يحدث في الذات، ليُفجِر كل ما يحمله قلبك من حقداً ومكراً وخبثً، ليتحول إلى أرضً قاحلةً جاهرةً لوضع البذور في ترابها، لتنمو بساتينها وتصبح أرضاً طاهرةً من جديد.

 

فأعطني يداك لأدخلك في عالمي، واسقيك بماء العشق الذي سيعيد لقلبك نبضه الحقيقي. ويغدي روحك بطعامها الأصلي الذي يوصلها إلى أعلى عليّين، حيث يتواجد العارفين من أهل الطريق.

 

فطوبى لمن ذاب في الوجود، وطوبى لمن أدرك السر العميق الذي فيه.

فأحتفظ بالسر الذي فيك، ولا تُسلمه لغير الباحثين عنه.

 

ولا تُكثر الكلام مع الذي

بالعِناد والجهلِ سلَكَ سبيلاَ

فلو قلت له السُم للموت يؤدّي

لقالَ ما ضرّ منهُ قليلاَ

 

 

 

 

صراع الخير والشر الأبدي

 

أنتهى الفجر الساكن بظلامه، وبدأت الشمس في الصعود لعرشها في السماء، وضربتُ أقدامي بالسوط حتى يركضا بلا تعب إلى حيثما يريد قلبي، وأغلقتُ عيناي بقماش حريري حتى أتجاهل مسافة الطريق المتبقية، طالباً من ذاتي أن تُوصِل جسدي لمكان لا أعرفه، وتحمله على أكتافها إذا ما سقط بين أشواك الطريق، تاركاً جسدي يخاطب ذاتي، وذاتي تخاطب جسدي طوال سلك هذه المسافة، أما أنا فاخترت أن أكون مريداً وأستمع لحديثهم المُقدس في صمتً أخرس.

 

مرّت الساعات الطوال، وطلب جسدي الماء فلبّت له كفوف يداي من مياه النهر الجارية، فارتاح قلبي وقال:

 

" لقد وصلنا إلى المكان الذي كنت أحلم به ".

 

فابتسمتّ شفتاي وأخذ أنفي شهيقاً ساحباً فيه هواءً مختلطاً برائحة الياسمين القادم من الزهرة التي بجانبي، ثم أخذ زفيراً عميقاً ليرمي من خلاله كل أشواك النفس المتكتّلة،

أما جُفُوني فقد أغلقت أبوابها لتُبقِى عيناي مُغمضة،

تاركاً جسدي تضربه الرياح الخفيفة القادمة من الشمال، ليؤخذني النوم في حلماً أحببت أن اسميه رؤية، بل تمنيتُ أن اسميه حقيقةً لو لم يكن حلماً.

 

ولم ألبث طويلاً حتى أيقظتني طاقة الخير وهي ترتدي ثوباً أبيضاً، ثم جَلبتّ لي كأس نبيذاً حلو المذاق من العنب العتيق المتخمّر منذ أكثر من قرن.

 

وقالت طاقة الخير بصوت أنثي غاضبة:

 

" كن الحَكَمَ بيننا فقد بدأت المبارزة مع طاقة الشر، تلك الشريرةُ الشمطاء".

 

 

فقالت طاقة الشر وهي تُمشّط شعرها باستهزاء وكأنها طفلة:

 

"وهل الشمطاء يتبعها عِظامّ البشر يا أيتها الخيريةُ الرخيصة؟"

 

فلزمّتُ الصمت واستمتعت بنبيذي أشاهد مبارزتهم اللفظية، واتخذتُ عهداً على أن أكون حَكَماً صادقاً، رغماً انني لا أميل لكلاهما، فالزواج من أحدهم مصيبةً لا طلاق فيها، ومن يتعلق بإحداهم يُصاب بعقم الفكر، بل من يأكل من صُنع يداهم يصاب بسوء الهضم وقُرحة المعدة، ولهذا أخترتُ أن أكون حَكَماً يراقب من بعيد، كما تراقب الشمسُ سكّان الأرض من بُعد مسافة، ففي المسافة حِكمةً لا يدركها عامة البشر.

 

ها قد وقفت طاقة الخير أمام طاقة الشر في ساحة المعرك،

وامتلأت السماء بمقاعد الحضور والسادة لمشاهدة هذا الحدث النادر، وضربَتّ الرياح أجساد كلاهما فأظهرت هيبتهن وكأنهن أحد الآلهة القديمة، وصمت جمهور الأرض والسماء منتظرين العاصفة بعد هذا السكون، ورفع كلاهن اصابعهن.

مُشيرةً طاقة الخير بسبّابتها إلى سماء، ومُشيرةً طاقة الشر بسبّابتها إلى الأرض، وعمّ الصمت من جديد، لتضرب بعدها السماء برعدً يصمّ الاذن، تاركةً طاقة الخير ترقص بمجد وسُمُو.

 

ولم يلبثّ هذا السُمُو طويلاً بسبب غضب طاقة الشر من هذا المشهد، فضربتّ هي الأخرى الأرض بقدمها اليُمنى مُحدثتاً زلزالاً هز الاراضين العليا والسفلي، حتى كادت أن تُسقط أهل السماء من مقاعدهم المصفوفة في الأعلى، وكاد زلزالها أن يسكب كأس نبيذي من يدي، بل كاد أن يُسقِط جسدي في أرضاً أعمق من هذه التي نمشي عليها.

 

فاتخذت خطوةً إلى الوراء وجعلت مسافةً بين صراع كلاهن، فلا أقوى على المشاركة في صراعات الآلهة.

 

فجأةً فتَحتّ طاقة الخير فمها ليبدأ لسانها في العزّف قائلاً:

 

" يا طاقة الشر الأبدية!

ألا تستسلمي وتطردي ثُعبانكِ من الجنة!

ألن ترمي سيوف الغدّر وتحملي سيقان الورد وتتحملي لدّغ أشواكها!

ألم ينبض قلبكً يوماً أتجاه الحب المكنوز في الصدور، المُغلف بغصن القداسة المسّقي بماء الجبال الطاهرة!

وإن لم تفهم شياطينُكِ التي تطير حولي عمق قولي هذا!

فإنني أعدكِ بحرق أخشاب الصندل التي في جُعبتي، وأنفخ دُخانها عليكن أجمعين فترحلوا بلا عودةً حتى أجلاً غير معلوم".

 

فضحكت طاقة الشر واقتربت بأقدامها خطوةً إلى الأمام،

واقترابها سبب الهلع لأهل السماء فعادوا خطوة إلى الوراء خشية تلقّي رُمحاً من سِهامها.

 

وقالت بعد أن اقتربَتّ وظهرت من خلفها هالةً لا يمكن التنبؤ بنوعها أو لونها:

 

" يا طاقة الخير الأبدية!

ألا تستسلمي إلى ثُعبانيِ وتتركي لنا الجنة!

ألم تعلمي أنني قد أتيت قبلكِ لها، والسابق هو من له الأولية!

أم أنكم كعادتكم بلا حقوق تتصفون بها!

أو أن ميزانكم لا يزال منافقاً يعمل لصالحكم كما العادة!

فما نحن إلا شياطين في عينكِ أنتِ التي ترى انعكاس ظلامها،

كما أنكِ أنتِ شيطانةً في عيون غيري كذلك،

أما أنا فلا أقول عنكِ أنكِ شيطانية أو ملائكية فقد مللت الحديث،

لأنكِ بائسة والبؤس صديق الملائكي والشيطاني على حد سواء،

حتى لو ابتسمت شفتاكِ فإن داخلك يبكي على ما تفعله تلك الشفاه الكاذبة، أمّا أنا فقد ترفّعّتُ عن كوني شيطانيةً أو ملائكية،

فقد أصبحتُ شيئاً أخراً لا تعرفينه ولم تري له مثيلاً.

ألم تعلمي أن الطيبين الذين يتبعونكِ هم هيكلاً خارجياً جميل فقط كالعربات!

وباطنهم سوداوياً مكبوتاً متزمّت، قاسيون في طباعهم عكس شكل خارجهم! كالوحوش يأكلون اللحوم بلا طهو، ويشربون الدماء بلا رحمة، ويتخذون نساءهم عبيداً لشهواتهم المقدسة، ففي الصباح يطهون لهم طعامهم، وفي الليل يمارسون معهم الجنس كرهاً لا طوعاً.

 

وإذا قالت متمردةً فيهم أنا لست عبدتك، لصفعها سيّدها صفعة معروفةً يعرفها نساء العالم، تلك الصفعة التي تنفخ الشفاه وتترك بعدها جروحاً محّمرةً على خدّها الأيسر، تم يقول سيُدها الذي يتظاهر أنه زوجها وهو جالساً مع أصدقاءه يشربون القهوة بلا سكر:

 

"نحن كَرّمّنا النساء أحسن تكريم".

 

فمَنّ الشيطان هنا أيتها المخادعة الماكرة يا طاقة الخير المزعومة!،

ترتدين رداء البياض الناصع وعيناك سوداء كالليل!

وتفُوح منكِ رائحة الخلّ وتتحججين قائلةً إن الخلّ مقدّس عندكم، فالخلّ خلاً حتى لو قلتي أنه نزل من السماء،

وأنتِ أنتِ، حتى لو ارتديتِ الأبيض لتُغطي به سوادك ".

 

فصُعِقتّ طاقة الخير بعد سماعها ما كانت تخشى سماعة، وأنزلت رأسها حتى غطّى شعرُها عيناها وظنّ الجميع أنها تبكي، بل ظن البعض أنها أصبحت متصوفة وإنها الأن تختبر أبعاداً داخلية، ولكن لم يلبث سُكونها لثواني حتى أظهرت ابتسامة ماكرة على شفتيها، بينما شعرها يغطي عيناها فلا تُرَى علامات ملامحها أو تجاعيدها،

 

وقالت بينها وبين نفسها:

 

" يا ليتني أستطيع أن أبتلع القمر عسى أن يضيء أعماقي،

يا ليتني أستطيع أن أشرب نور الشمس عسى أن ينير هالتي ويزيل عني فضيحتي هذه ".

 

ثم رفَعتّ سيّفَها وهجمتّ على طاقة الشر ولكن الأخيرة بدورها كانت لها بالمرصاد المُبين، فالتقت سيوف كلاهما في المنتصف وكأنه مشهداً خيالي لصراعات الآلهة، حيث النصف القليل من أسفل مُقدمة سيف طاقة الخير الحاد، ضرب منتصف سيف طاقة الشر، ليشكلا بسيوفهنَ شكل صليباً نتيجة لقاء وتشابك سيوفهن في المبارزة، لتلتصق سيوفهن ببعضهم على شكل صليب، نتيجة تشابك أسفل مقدمة هذا السيف، ومنتصف السيف الأخر فيما بينهم، محاولين كلاهنّ إثبات من الأقوى هنا من خلال المقاومة والضغط لإسقاط سيف الطرف الأخر.

 

وحين رأيت الصليب تشكّل نِتاج لقاء ضغط سيوفهنّ على بعضهن، أدركتُ أن المُخلّص يجب أن يتدخل في الحال، ليفصل بين الأضداد المتعادية التي تتشاجر منذ فجر التاريخ، ليحل السلام والوئام بعيداً عن الحروب المتكررة في كل يوماً وشهراً وعام.

 

فقلت لهن بعد أن أخذت الرشفة الأخيرة من كأس النبيذ الأحمر العتيق:

 

" كلاكما يكفي...! فقد اقتربت الشمس من الشروق بلونها الخفيف، وسكنَتّ الرياح القادمة من الشمال، وبدء الهدوء يشّتد وترتفع زقزقة العصافير رويداً رويداً، أما زهرة اللوتس فقد اقتربت من أن تطفوا في قمة النهر هناك، فانزعوا سيوفكم فقد انتهت المعركة وحان وقت الحُكّم، ألم تتخذونني حَكَماً فتقبّلوا حُكّمي حتى لو كنتُ ثَمِلاً ".

 

 فنظروا إلى بعضهن وأزالوا سيوفهن المتشابكة واختفى الصليب المُتشكّل، وزال غضبهن وهدء أهل الأرض والسماء في ثانيةً واحدة.

 

وقلت لهم بصوت عالي يصل إلى أعمق أرض وإلى أعلى سماء:

" يا طاقة الخير الجذابة،

ويا طاقة الشر الفاتنة،

ليس في كلاكما سلبيةً وليس في كلاكما إيجابية محضة،

بل وهماً وغضباً وتعصب لمعتقداتكم وحرباً ودمار،

وهل الكاذب يعترف بكذبته أمام الشهود؟،

وهل الصادق يبقى صادقاً طويلاً في كل الظروف؟،

أم أن النسبية فعلاً تلعب دورها!

والمطلقة تلعب دورها فقط من حين إلى أخر!

ألم تعلموا أن الأضداد تتحد ولا تتنافر!

ألم تعلموا أن معتقدات كلاكما خاطئة!

وأنكم أتيت من طاقةً واحدة!

ولكنكم قسّمتُموها وعجنتُموها وشربتموها على الريق بلا حِكمةً أو ذوّق، فكيف يُظهر الخير خيره إذا لم يكن الشر، وكيف يُظهر الشر شره إذا لم يكن الخير، فكلاكما أنتم هذه المتضادات، فيجب أن تتجاوزوهما، فلا رابحاً بينكن هنا، ولكن كلاكما خسِرتم المعركة ".

 

فقالوا بتعجب: " ماذا...! وكيف ذلك؟"

 

فأخذتُ حينها الرشفة الأخيرة من نبيذي ليتذوق لساني قداسة مذاقه الخفيف، ثم شهقتُ زفيراً عميقاً من سيجارتي وراقبتُ دُخانها المنبعث من فمي وقلت لهم بصوت مُنخفض:

 

" ألم تعلموا أن الأضداد تُحرك العالم،

فهل تكون هناك روح بلا جسد؟

وهل يكون هناك جسد بلا روح؟

وهل يكون هناك قمر بلا شمس؟

وهل يكون هناك شمس بلا قمر؟

بل هل يكون هناك ليلاً بلا نهار؟

وهل يكون هناك نهار بلا ليل؟

وهل يكون هناك أنثى بلا ذكر؟

وهل يكون هناك ذكر بلا أنثى؟

فالأضداد تُكمل بعضها البعض،

وتناغمهم لا يُفسد للود قضية،

بل تناغم وتغيير وانسجام،

ففي طاقة الخير يتواجد الشر، وفي طاقة الشر يتواجد الخير.

 

 

ألم تسمعوا المتصوف الذي صاح قائلاً:

" إن القطرة هي المحيط، وأن المحيط هو القطرة".

 

فما بالكم تتجادلون!، فلولا نار العقل لما تواجدت جنة الوعي، ولولا جنة الوعي لما تواجدت نار العقل، فأنتم الكل، والكل هو أنتم، وحينما تتجاوزوا المتضادات المختلفة، ستدركون أنكم لستم أي أحد. وحينها تنطفأ الجحيم والجنة في أنن واحد، وتدخلوا لمكان أكثر جمالً من كلاهما، مكان الأبدية والخلود، موطن السرمدية الأزلية ".

 

وهنا صفّق أهل السماء والأرض والدموع تتساقط على خُدودهم، ونزلتّ الأمطار من السماء على الأرض لتُسقيها لأربعين ليلةً متواصلة، واحتضنتّ طاقة الشر طاقة الخير وذابوا في بعضهم وانكسرت سيوفهم وانحنى كلاهما للأخر

ورفعوا شعار التنوير من أسفل الأرض إلى أعلى السماء تكريماً وتبجيلاً للوِحّدة بين كلاهما، تكريماً وتبجيلاً لذواتنا الأزلية، بل تكريماً وتبجيلاً للحقيقة التي لا حقيقةً بعدها.

 

عُمق الليل

 

لقد حلّ الليل وانعدمت الرؤية، واستعدتّ يداي لالتقاط قلم الريش الساقط من السماء، لأستمع لوحي قلبي الذي تحول إلى شاعراً حسّاس، لتشتد حساسيتُه كلما أشتد نور القمر المنبعث من الأعلى، لتُمسكَ أصابع يدي الشمال كأس نبيذاً أحمراً عتيقً كعادتها، وتُمسك أصابع يدي اليمنى قلم الريش السماوي، ليبدأ القلب بكتابة الإلهام جهراً على الملأ، لتفوح رائحة كلماتها المكتوبة في كل حدبٍ وصوب، إلى أن تشُمّها كل الارواح التائهة في الوجود الأكبر، ليتبعوا رائحتها التي ستُرشدهم إلى مركز مضجعي، لنبدأ بعدها بسرد المحاضرة المُقدّسة الداخلية،.

 

فلولا بومتي التي توقظني!، ولولا شموعي التي تود مني أن أحرقها! لما أدركت الليل وأسراره.

فقد ناموا فيه أولئك الذين أشتد على جسدهم التعب،

وها قد استيقظتُ فيه بعد أن أشتد على قلبي الحُب، لأكتب فيه عن أسرار روحي التي ترقص في ملّهى جسدي الساكن، ولا اتوقف إلا إذا وضع ابهامي نقطةً في نهاية السطر المكتوب، لكي يأخذني النوم بعد أن تخرُج الشمس وينتهي في حضورها الليل، لينتهي معها كأس نبيذي وحبر قلمي وشِعري، ليصبحوا عبارةً عن ذِكرى من الماضي.

 

روح خالتي الراحلة

 

"  - 20111979 من شهر مايو"،

 

خرجَتّ خالتي الحبيبة للوجود من الرحم المُقدس الذي كبّلها لتسعة شهور متواصلة في جوفه المُبطّن.

لتُحدق بعينها المبللة بالدموع لهذا العالم المحسوس الذي لم تلبُث فيه إلا سنينً معدودةً تُعد على الأصابع.

بعد أن رمتها أمواج الحياة إلى معبد الأمراض الذي يخافه كل أنسان وُلد صحيحاً أو معوجاً منكسراً، وتتعوّدُ من شرّه كل روحٍ أرادت أن تبقى في هذا الجسد طويلاً.

 

ففي معبد الأمراض اشواكاً تُمزق الروح وتفصلها عن الجسد، لترميها في عالم الاثير الذي لا تشهده العيون الرطبة الحسّاسة، وما أكثر الاشواك التي مزّقت أوراق الورود المستوطنة بجوارها في نفس أرضها التي ضربها الفلاح بفأسه المُسنن قبل بضعة أعوام، تاركةً أوراق ورود الحب تسقط على الارض لتسحبُها الأمواج الهائجة إلى أعماق البحر حتى يُنسى أمرها وكأنه لمن يكن شيئاً.

 

فدعوني أحكي لكم حكايتي مع التي أخبرتُها بأسرار قلبي الذي قفز من صدري واستوطن في صدرها ليصبحوا قلباً واحداً متحداً. وكأنه غُصّنً رقيقً واحداً منفرداً أثمر وردتين حمراويتين في أعلاه بسبب خلل جيني، أو ربما بسبب عشقً إلهي ذو معجزاتً تصنع جسداً واحد في أعلاه رأسين، ليتشاركو الحديث ويأنسون بعضهم عندما تتركهم الدنيا ويلعنهم سُكانها بالكُفر المُبين لمشاركتهم أسرار الحب الدفين.

 

وها هي يداي تضرب صدري لأنها أقسمت على ألا تتوقف عن ضربه حتى تنكسر ضلوعي لتُخرج قلبي المُقدس الذي لم تراه عيناي يوماً، لأضعه على خذي ليقترب من اذني ويهمس في طبّلتها بهمسات السر المهيب الذي يسكن فيه، فلعل سر قلبي إلهيً للغاية، وشدة تردداته العالية قد تُسبب طرشً لأذني فلا تعد تسمع شيئاً غير الصمت الأخرس، فأهلاً بالطرش لو كان يوقف السمع ويتركني ساكناً، فلعل في الصمت أجد فرصتً أستمع فيها لباطني حيث يكمن ذاك الذي كنت أبحث عنه. فهو يتواجد بين السكون المؤقت الذي يتجلى بين دقات القلب المتواصلة، وذاك السكون يحتاج روحً أصابها الطرش ولم تعد تستمع للعالم المحسوس هذا، لتجد نفسها مرميةً بين أحضان القلب الوجودي لتستمع إلى الفجوة التي تقبع بين نبضاته.

 

فقبل ثلاثة أياماً قبل أن ترحل روح الأميرة من جسدها الذي أصبح قصراً خرباً مسكوناً بالأمراض من كل صوبً وحدب، قالت لي وانا احدّق في عيناه التي تُخبئ في جوفها كلماتً قد استلهمتها من عالم الأرواح البعيد. بينما كانت باقي عائلتي مشغولةً في الغرفة العلوية يتحدثون بكلماتً ومواضيعً استلهموها من عالم الدنيا القريب.

 

وقالت لي وانا أحدق في وجهها في تلك الغرفة المُظلمة التي يسكنها فقط ضوءً صغيراً منبعثاً من التلفاز ليضيء القليل من النور على النصف الأيمن من أجسادنا، ويترك نصف جسدنا الأخر مظلماً. فقد يكون ما ستقوله ينتمي لذاك العالم المظلم الذي لا نراه. فقالت بشفتيها اللذان يرتجفان من شدة البرد وحرقة المرض الذي يغلي في بطنها وتسبب لها في عسر الهضم المزمن:

" عزيزي نضال، لقد حان موعد الرحيل لترحل معي أسرارك التي خبأتُها في قلبي طوال هذه السنين، فإن عربة جسدي قد أختُلت عجلاتها، وبدء مُحرّكها بإصدار صوت خشيشً وكأنه يهيأ نفسه للتوقف. وها أنا أُنبئك بموعد وفاتي الذي لن يكون اطول من عدد أرقام اصابع يداي العشرة هاتين، فلن أبقى هنا لأكثر من عشرة أيام، وربما لأربعة ايام كالتي بدورها تصادف عدد ايام فصول الحياة الاربعة.

 

فمرت الأيام القليلة لأستيقظ على صوت بكاءً قادماً من الدور السفلي لمنزلي في ذلك الصباح الذي لم تخرج فيه الشمس لأول مرة، فركضّت مسرعاً لسقف البيت طالباً من السماء أن تُنزل لي حبلاً يرفعني إلى أعلاها حتى أهرب من صوت البكاء القادم اليّ من أسفل المنزل، ولم تستجب السماء، وها قد وصل صوت البكاء الذي يشير إلى شيئاً لا اود سماعه حتى في احلامي وكوابيسي. لتقولي لي قائلةً من البكّاءين الذين حصلوا على الخبر الذي كاد أن يُطّبق السماء والارض وينهي الوجود في تسع دقائق:

 

" تلك التي أعطيتها أسرارك يا نضال! قد رحلت ورحلت معها أسرارك، ولم تترك لك شيئاً غير الذكريات التي يمكنك أن تشاهدها في ذهنك قبل النوم أو أثناء كتابتك لشعرك الكلاسيكي المُقدس، فقد رحلتّ وسرعان ما سترحل معها رائحتها من ثيابها عندما نغسلهم بعد بضعة أيام، وكأنها لم تكن هنا".

 

فقلت لها: " لا أحد يذهب إلى الأبد، لأن أبد الأبدية يعيد الذاهبين مرةً اخرى لمسكنهم الأول، ليستنشقوا هواء الحياة اللطيفة ويعودوا أطفالاً يتعلمون الحروف والأرقام والرقص والحب والرسم من جديد. فالعربةُ يوماً ما ستصبح قديمةً ليتوقف محرِّكُها، ولكن السائق سيأخذ عربةً أخرى لكي يبدأ من جديد. فالعربة ترحل إلى الأبد، ولكن السائق يُبدّل القديم بالجديد ولكنه لا يرحل.

 

 

 

 

 

الراهب الحكيم والعالِم المُريد

 

أعِدكّ عهّد الرجال أيها القمر الذهبي الساطع في كبِدِ سماء هذه الليلة، أعِدك بأن تراني أرقص تحت انعكاس وهّجك الخافِت عندما أحقق حُلمي في إنزال أول أهدافي المُعلّقة في سماءك في يوم من الأيام. فلنّ يكون أسمي "أديب" إنّ عُدّت لك فارغ الوفاض أو أحبوا من التعب والحسرة.

فقدّ قٍمت بتجميع الكثير من أوراق الأبحاثً العلمية الرقيقة وسجنّتُهم جيدًا في مُجلدًا ضخم مصنوع من الجلّد العتيق. عسى أنّ أُكرّم في الغد وأرأسُ منصبً لا تصله أعيُن الناضرين. ولكنّا رأسي الذي يألمني منذ زمن قد شوّش على بصيرتي الرؤية فلمّ تعد ترى أحلامها التي تودّ أن تُحققها. فتفكيري في تحقيق أهدافي قدّ منعني من عيش حياتي. ومسّعاي المُفرط في تحقيقها قد حجب عنّي جمال الطُرق التي أمشي بينهم إليه. فعيناي لمّ تعدّ ترى إلاّ للسراب الذي أمامها وتتبعه بتطرّف وتشدُّد، أمّا أقدامي فإنها تلاحق ما تتبعه عيناي بطاعةً عمياء. فغاب عنّي ما حولي وتركني أتبع السراب المُتحرك إلى أن يختفي لأنتظر ظهوره من جديد كما العادة.

نفسي ستُصبح كآهلةً بعد بضع سنين. وجسدي سيشيخ بعد بضعتِّ أشهر. فبدني لا يزال يبحث عن اللذّة والثراء رغم أنّ ذاتي تفتقد هذا الجاه أكثر من بدني.

فهلّ أصبِر على ضغوط الذات التي تحرق أعصابي من أجل تحقيق لذّة الجسد الزائل؟ أمّ أضحّي بالجسد وأحلامه من أجلّ تحقيق لذّة الذات الأزلية؟ فأنا متأكد من وجود الجسدّ وما يهواه من مسرّات ومُتع، ولكننّي لست متأكدًا من وجود الذات الخرافية التي تسكن الأجساد الأدمية. فلّ نُسَبّق ما نعرفه إذًا ونترك المجهول حتّي نكتشفه في حينه.

 

أتى فجر اليوم الثاني، وأديب كان قد حمل أوراقه وذهب مُسرعًا إلى مجلس العلم حيث يقاس وزن الإنسان بما يحّمِل في رأسه من علوم. فارتقى أديب وحقق مبغاه الذي وعد القمر بتحقيقه. وخرج فرحًا بين تصفيق المصفّقين وطرب المُطّربين. فلمّ يحلّ الليل إلاّ وكان أديب قد أشتري ما يهواه الجسد من ثياب ومشربّ ومَركبّ فخم ليمتطيه بفخر أمام من يمتطي الدواب. وعاد صديقنا المُكرّم إلى بيته وأرتمى على فراشه الناعم ولكنّا سؤالاً خطيرًا ظهر ليطفوا على سطح عقله كالقارب المُعلّق في وسط بطن المحيط الهائج.

حيث قال أديب متسائلاً وهو يحدّق في مُشترياته الجديدة:

"ها قد حقّقتُ مسعاي الذي كنت أركض خلفه كالعبد منذ سنين طوال! فكيف يمكنني الآن تعويض السنين الطويلة التي قضيت شبابي كُلّه فيها من أجل تحقيق ما حقّقته اليوم؟ فما فائدة ما حقّقتُه الآن إذا كان قدّ منعني عن الاستمتاع بفترات شبابي السابقة؟ وما فائدة ما حقّقته إذا كان ما تبقى من عمري هو أقلّ مما قضيته؟ فلا أنا استمتعتُ بشبابي، ولا أنا قادرًا على العيش في بدخ ولعبّ بحُكّم تثاقل خطوات أقدام جسدي العجوز، ولا أنا قادرًا على العيش لسنين أطول مما عشّتها.

تبًا لصعوبة الاختيار. إمّا أن يعيش المرء شبابه في اللهو والمتعة التي يُقابلها الشقاء في كبر السن. أو يعيش شبابه بعيدًا عن اللهو والمتعة ليقابلها الرخاء في سن العجز والخرف الخالي من المُتع. لماذا كل ما يُسعدنا اليوم يُكون سبباً في تعاستنا في الغد؟ لما ننتظر هطول الثلوج البيضاء بشغف ولكن حين حضورها نشتكي من برودتها؟ لما ننتظر موعد قدوم الضيف وحين قدومه نبدأ في انتظار موعد رحيله عنّا؟".

 

قال أديب هذه الكلمات حتّى أتاه النوم وبدء في الهذيان. فرأى في منامه حُلماً غريباً لمّ يرى مثله من قبل. رآى نفسه يمشي بين لهيب جحيماً حارقه وبين رياح جِنان باردة. حيث كان هناك راهبًا يُمسك مِسبحةً في نهاية الطريق ويقول له: 

" تقدّم يا بُنى بدون أن تشتهي الجنّة التي على يمينك ولا أن تخفّ من النار التي على يسارك. إستمِر في المشي بينهما بحذر يا بُني فالطريق ممتلئ بالمخاطر والمُغريات".

 

أستيقظ أديب مفزوعاً في منتصف الليل البارد وهو يحدث نفسه برعب قائلاً: "أظن أنني كنتُ قد رأيت هذا الراهب الحكيم في أحد أيام حياتي التعيسة هذه".

 

حاول أديب أن يتذكر أين رؤى ذلك الحكيم من قبل، ولكن بدون جدوى. وفور فقدانه للأمل تذكر فجأةً أن ذلك الراهب يقطن في أحد الكهوف البعيدة عن بيته الضخم. فقد رأه في أحد الأيام عندما كان أديب ذاهبً في رحلةً من رحلات الصيد.

 

نهض أديب من فراشه تاركً وسادته الدافئة وغطاءه الناعم. ثم أمتطى أقدامه قاصدًا الراهب في منتصف هذه الليلة بدون أن يُبالى بوحشة الطرقات أو ظُلمات الجبال.  

 

خرج أديب من منزله منذ أكثر من ساعة، وهو الآن يمشي على التراب الذي صُنع منه جسده الزائل. ويقول بينه وبين نفسه: "ها أنا أمشي عليك يا تراب الأرض بكبرياء وعزّة، وفي يوم من الأيام سأسكُن جوفك ليمشي عليّ أهلُ العمى الذين يشبهونني جيدًا".

 

أقترب أديب من الكهف المُتمركز في وسط أحد الجبال، فلولا شموع الراهب المُشتعلة لما تمكنّا مُريدنا من رؤيةِ مُخلّصة الذي ينتظره بشوق ولهفة. فجاهد مُريدنا نفسه ليصعد الجبل رغم الجروح الذي تعرض لها جرّاء ارتطامه بالأشواك والصخور. ولمّ يعلم أن هذه الجروح هي ليست إلاّ شيئاً من القطرات الصغيرة مُقارنةً بجروح النفس التي تُمثّل المحيط بِرُمّته.

 

وصل المريد إلى مُراده الأول، حيث اختبأ خلف حجرةً ضخمة أمام باب الكهف. وظلّ يُراقب عن كثب مُتمنياً ألاّ تلتقي عيناه مع عيون الراهب. فشاهدَ مُريدنا شكل الكهف المُظلم الذي تنيره بعض الشموع عن قُرب. ورأى فراش الراهب المصنوع من جلود أحد الدواب. ثم نظر إلى الراهب الذي يرتدي خِرّقةً تضربها الرياح الهادئة وشيئاً من القُماش الذي يلفّ به جسده من باب الستّر لا من باب الدفيء والاكتساء. فلمّ يظهر وجه الراهب جيدًا لأن ظهره كان يقابل مدخل الكهف، بينما وجهه كان يُحدق في جداره.

 

وبينما أديب يحدّق في الراهب بتمعنّ، فجأةً بدء الراهب في ممارسة التأمل وهو يُتمتم بأقوال لا يفهمها عامةُ المستمعين. ثم بدء جسد الراهب يطفوا إلى الأعلى حتّى اقتراب رأسه من لمس قِمّة الكهف. ففزع أديب وأختبأ جيدًا خلف الصخرة محاولاً أن يُقنع نفسه بأن ما رأه الآن ليس إلاّ هذيان بصري أو أنه ليس إلاّ شيئاً من الخيال.   

 

ثم قال الراهب بعد أن أعاد جسده إلى الأرض وعيناه تُحدّق في جدار الكهف:

 

" أدخل يا بُني أديب، فقد كنت أنتظرك منذ زمن بعيد. فلولا رؤيةِ للنور الظاهر من صفاء سريرتك لما أعطيتُك بظهري رغم معرفتي بالسكين الذي يقبع في غُمّدك.

تعال يا بُني! وأقصص عليّ ما رأيته في منامك قبل قليل. تعال إليّ بحذر في هذا الطريق فشموع النيران لا تزال على يسار كهفي فلا تخف منها، ورياح الجِنان لا تزال تهُبّ على يمينه فلا تُغريك بمفاتنها. فاقترب منّي ولنكمل الجزء المفقود من الحلم، وراقِب خطواتك أثناء سلكك هذا الطريق إليّ يا بُني".

 

خرج أديب من خلف الصخرة وعيناه ممتلئة بالدموع، ثم ذهب مُسرعًا إلى الحكيم وكأنه طفل صغير عثر على والده المفقود منذ أعوام. ركض مُريدنا إلى الراهب ورمى رُكبتيه المُرتجفتان على الأرض وأسقط رأسه على أقدام الحكيم فبلّلها بالدموع من شِدّة البكاء. وظلّ يتحدث وهو يبكي بحرقةً قائلا: " لطالما نطق لساني الأسود بكلمات سامّةً اتجاهك قد لا تُعجب قداستك. كنّتُ جاهلاً أستهزئ من ثوبك الغريب وكهفك المهجور، وها أنا الآن أستهزئ من نفسي بمُجملها على جهلها. أنا لستُ إلّا رجلً ينّبش في مقابر الدنيا ومُتناسيًا النبّش في ذاته التي تتجاوز الأجساد والمقابر. كمّ كنتُ أجاهد نفسي على السعي لتحقيق الأهداف تلّ والأهداف، ولمّ أكن أعلم أن تلك الأهداف ليستّ إلاّ استدراج لإدمان السعي خلّف اللذّة القصيرة. كمّ أشتهي تمزيق جسدي الذي أثقلته الأوجاع، وكمّ أشتهي تحطيم رأسي الذي أمتلئ بما لا ينفع الذات في شيء.

حطّمّني يا راهبي كما تُحطم الأحطاب، وأرمى لحم جسدي على النار ووزعه كطعام للفقراء والمساكين الجياع، ثم اهديهم رُفات عظامي عسى أن تشتعل كالحطب فيتدفؤون منها في مثل هذه الليالي الباردة.

لقد ظننتُ أن جمّع المال يجلب ليّ معه السعادة، ولكنّه جلبَ معه المنافقين الذين يحومون حوله وحولي بابتسامات تبعثُ على الشكوك والظنون. فيا وحيتاه يا راهبي المُقدّس! فقد بعّتُ ذاتي لقُطّاع الطُرق بثمن بخس. وها أنا الآن أحتاج استردادها بأموال الدنيا فلمّ أجدها البتّة. فأرشدني يا راهب الكشوفات ويا أمير العرفان ويا ملِك التجلّيات. أرشدني يا محيط حبّ العاشقين إلى جزيرة السكينة حيث كنزي المدفون. أرشدني إلى موطني الحقيقي فإنّي تاركًا كلّ ما ظننته موطني".

 

أكمل المريد حديثه وهو يبكي من ألام طعنات سيوف الحياة القاطعة. ولكنّ راهبنا وضع كفّ يداه على خدّ مُريده الضائع في غابات الوحوش، وأجلسه على كرسي مصنوع من الخشب القديم. ثم ُحدّق حكيمُنا في عيون المريد بلطف وحنان وكأنه يبحث عنّ شيء ما فيهما.

ثم قال له الراهب: "أحضر ليّ كأس حليب من الداخل يا بُني أديب، فكيف لي أن أحدثك وريقي يشتهي الارتواء".

 

فذهب المريد أديب إلى زاوية الكهف وأمسك قارورة الحليب الزجاجيةً الشفّافة وبدء في سكّبها في الكأس. ولكنّه أُصيب بشيء من الرعب والخوف ما جعله يرتجف ارتجافاً، ونادى بصوت عالي من زاوية الكهف قائلاً: "أدركني يا راهبي! فإن الحليب يتحول إلى اللون الأسود عندما أسكبه في الكأس، رغم أنني أراه أبيض اللون وناصع البياض في القارورة الزجاجية!".

 

ضحِك الراهب بصوتً عالي وهو جالس بجانب النار، ونظر إلى مُريده حتّى ظهر انعكاس لحّيته الطويلة على الجدار، ثم قال له مُبتسمًا:

" يتحول الكلب الوفي إلى وحشاً مسعور عندما يقترب منه رجلً دخيل. ويصعب على العواطف المُعلّقة فوق الجحيم أنّ تبوح بمُعاناة ألآمها للمُتشمّتين بها من بني أدم وحواء. ويتحول الثوب الأبيض إلى سواد عندما تلمسه أيادي مُتسخة مُسبقاً بسواد الفحم. فطهّر روحك يا بُني من دنس النفس وتجرّد من أكبال الدنيا الزائلة. ولا تصبر مُنتظرًا زوال مُعاناتك أو تحاربها، بلّ عاشِرها وتقبّل وجودها وحينها سترحل هيّ والصبر والانتظار.

فهلّ علِمت يا بني سر اللبن الأبيض الذي تحوّل إلى سواد بين كفوفك".

 

اقترب مُريدنا وطلب من قداسة مولانا الحكيم بأدب ووقار أن يحدثه عن بداية الكوّن وموجوداته. 

فقال له الحكيم: "لم يبدأ الكون ببدايةً ولنّ ينتهي بنهاية، أمّا موجوداته فهُمّ كالبذور الغارقة في رحّم الأرض ينتظرون ولادتهم ليخرُجوا من الجوف ويتفتّحوا كما الأزهار إلى أن يموتوا ويعودون إلى حيث ما كانوا أول مرة. فإذا تفتحّت زهرتُك يا بُني فاسقها بالماء جيدًا حتّى لا تذبُل وتنكسر، ولكنّ لتعلم علم اليقين أن إروائها لنّ يحررها من الفناء الذي ينتظرها. فأسماك البحر يعيشون في عُمّق الشيء الذي يجعل من كل شيء حي، ولكنّ الماء الذي يُحيينا ويُحيِيّهم لنّ يضمُن خلودنا وخلودهم في هذا البدن الذي نرتديه".

 

 

 

قال مُريدنا لمولانا أخبرني عن الحياة التي نعرفها.

فقال له مولانا: "تلك الحياة ليستّ إلاّ كذبةً يُعاشرها الكاذبين من أمثالها. فهي جاريةً تعرف جيدًا ما يحتاجه الإنسان المكبوت من ملذات زائله فتغويه بها. فتُعطيه من ثمارها الرطبة اليوم، وفي الغدّ تذوقّه شيئاً من حِدّة سهّمها المسموم بعد أن تغّمزه في صدّره. ثم تحاول إنقاذه ودموع الزيف تسيل من مُقلتيها وتقول له تباً للغريب الذي رماك بسهم طائش يا عزيزي.

فاستمتع يا بُني بمُعاشرة الحياة ولكنّ لا تتناول شيء صنعتّها بيداه. وأحذر من أن تشرب كأس تهديه لك ولكنّ شارِكها في الشرب من كأسها لتتجنبّ ظُلمات دهاليزها.

الحياة تُصبح لذةً عندما نحذر من سِهامها الطائشة حينما نضع دِرع الحب على صدورنا، ونُمسك سيف التأمل في قبّضةِ كفوفنا. فلا تُعادي الحياة ولا تُصادقها. وأعلم أنها ليستّ إلاّ مِرآة الباطن ولكنّني أجزم أن جُلّ بواطن الخلّق ليستّ بتلك الدرجة من الطُهر والنظافة. ولهذا يتلقّون شيئاً من سِهامها الطائشة من حيث لا يعلمون.  

الحقّ أقول! إن الحياة في جوهرها متوازنةً في كِلا المِكيالين اللذان يحّملان نفس الوزن من الأحجار النفيسة التي ثقف على الميزان، ولكنّنا قمّنا بالعبث في توازن ميزانها ومكيالِها فأسقطتّ أحجارها الثقيلة على رؤوسنا، ولهذا نحنُ صرّعى على الأرض ودماء الغباء تسيل من جروحنا البلهاء. 

 

ظهر القليل من نور شمس الصباح الخفيف، فنظر مولانا إلى الشمس وفتح دراعيه وكأنه يعانق السماء ثم قال إلى أُمِنا الشمس: "عودي يا ربّة النور والإشراق فإنّي لم أنتهي بعدُ من عبادة الليل. فمُريدي أشدّ شوقاً للنور مِنّا، فعبثاً تحاولين الإشراق قبل موعد إشراقك المعهود.

فاعتذر الشمس من مولانا وغطّت وهجها بحجاب أسود وتركتّ مولانا يختلي بخليه في ليالي العشق العظيم.

 

ثم قال المريد إلى الحكيم: "كيف أصل إلى الحبّ المقدس؟"

قال له راهبنا: "اغسل قلّبك قبل أن تغسل يداك، واستحمّ في بحر السماء الأزرق قبّل أن تُطهّر بدنك في ماء الأرض العذب. فهلّ نفتح القُفل بالمفتاح، أمّ نفتح المفتاح بالقُفل يا بُني؟

 

فقال له أديب: "بلّ بالمُفتاح نفتح القُفل".

فقال لها حكيمنا: "إذاً إسعى في فتح القُفل بالليّن ولكنّ احذر من أن تُكسر القفل بفأس الجهل والتسرّع. فيوماً ما ستعلم أن القفل كان مفتوحاً منذ البداية ولكنّا عيناك هي التي كانتّ مُقفلةً بالقفل.

ولتعلمّ أن أوساخ ثوب النفس لا يزولوا بالماء فحسب، بلّ يحتاجوا مسحوق الحب ليطهّرهم تطهيراً. وأعلم أن نمو الحبّ كنمو البذرة، فإنه يحتاج منك اجتهاد وعناية حتّى تظفُر عيناك برؤيته وقدّ تحوّل إلى شجرةً عالية تأكل منها أنت وغيرك.

واحذر يا بُني من الطمع حتّى لا يصيبك الجوع في وسط الثراء. واحذر يا بُني من كثرة الزُهد حتّى لا تأكل رغيف خبزًا واحد بينما بستانك ممتلئ بالقمح والشعير. أمّا أنا فقد أخترتُ الزهد برغبتي فلا تتبعني فيما أقوم فُتصبح من العُميان التابعين.

وإذا عبرَتّ نسمات الحُب في طيف روحك فاسجد لها وأحبوا لها حبواً. فإن لمّ تكنّ من عُبّاد الحُبّ فخيراً لكّ أن تتوب قبّل فوات الأوان. وإن فات أوانك فاعلم حينها أنك قدّ مُتّ ولم تعلم، وسيُساق بكّ إلى جحيم الكره حيث سترى الويلات من الألم المُبين.

فقبِّل الثمرة قبّل أن تقطفها من بين أخوتها، وحذاري من أن ترمها على الأرض فتتلقي سهماً طائشاً يرميك في دماء الأحزان يا بُني. وحدّق في الكون وأنسى أنك المُحدّق. فحينها ستُحدق أنت الكون في أنت الأدمي في وحدةً لا تفصلها الفواصل.

فلا أحد يُمكن له أن يهديك الحب المُقدس، ألهُمّ إن أهديته أنت لنفسك بنفسك.

 

قال مريدنا حدثّني عن الأخلاق يا راهب الرهبان:

فقال له شيخنا: "ابتعد عن الأخلاق التي تعرفها وحينها ستجد الأخلاق التي لا تعرفها. ولا تُجنّد نفسك بأخلاق مُحيطك الزائف فتغرق معهم في بحر الكذب والخداع. اشتمني أن خضِبّت منّي ولكنّ لا تبتسم ليّ كالذئاب. أضربّني إن ضربّتُك ولكن لا تُعانقني متداعياً الصلّح بينما عيناك تُخبأ ليّ المكائد في الغد.

وإيّاك أن تُقبّل طفلاً في حُضن والدته ثم تصفعه سراً حينما تتركه وحيداً بجوارك. 

وابكي إن شعرت بالحزن واضحك إن شعرت بالبهجة. كنّ صادقاً مع نفسك وأبتعد عن النفاق، وبذلك تجد الأخلاق التي لطالما بحثّا عنها.

 

قال أديب للراهب: "يا ليت كلّ الناس تمثلك قدسيّتك يا حكيمي! فالبشر تركوا الكهوف حيث تتواجد الحكمة، وذهبوا إلى الحانات حيث تتواجد المُسكرات.

 

فنظر الراهب إلى مُريده بغضب وأخرج زجاجة النبيذ من جُعبته وقال: "أمّا أن فسوف أتركك أنت والكهف حيث تتواجد الأحكام المُتسرعة العمّياء، وسأذهب إلى قمّة الجبل حيث تتواجد السكينة لأشرب فيها من كؤوس النبيذ كالبشر الذين هزِئتَ منهم أنت للتو. أوكلما تعلّمتم شيء صغير من العلّم نسيتم أنكم كنتم جهلة بالأمس. أوكلما استمعتم إلى فيض وحكمة ظننتم أنكم بلغتم مُجملَها. أنسيت أنك بالأمس كنتَ تأكل الخبز بالزيت! فلماذا تهزئ اليوم من عصّارةّ الزيتون وحبّات الشعير وقد كنّت بالأمس تتمنى أن تحصل ولو على نصف صاع منهما. فأنا لا أذكرك بتعاستك السابقة لكي أعيدك للخلف بلّ أهدف لجعلك تتعلم منهما لا أن تتكبر عليهما فتنسى دروسهما القيّمة. فلا تقرأ كتابً يا بُني فتظن أنك ختِمتّ العلم، ولا تظن أن تأملاتك القصيرة جعلتّك من أهل العرفان والتجليات. فلولا جهل الجهلاء لما ظهر الحُكماء. ولولا حكمة الحكماء لما ظهر الجهلاء. فانسجم مع المتناقضات وأرقص معهما. وأترك الأحكام، فطريقهُم قد ترّمي بك بعيدًا عن جزيرة الحب".  

 

ثم ارتشف راهبنا شيء من النبيذ الأحمر العتيق بلطف. وبدأ في التحديق في النجوم المُتكبّدة في السماء. ثم قال لأديب بعد أن أغلق عيناه: "عجباً لإنسان لا يهوى احتساء النبيذ رغم إدمانه على احتساء التقاليد القديمة. عجباً لمنّ لا ينظر إلى شمس الشروق الناصعة ولا يباركها رغم إدمانه على مُباركة مالا يعلم.

أتعجب ممن لا يتعجب في الوجود. وأتعجبُّ فيمن لا يتعجبّ في التعجّب نفسه".

 

قال المريد وهو يُحدق في الأرض بحسرة: "أخبرني قداستك عن الأسرار في الوجود".

 

قال حكيمنا: "لا تتواجد أسرار في الوجود لأن الوجود من أساسه سر. الوجود ثمرةً روحية لا يأكل منها إلى من نزع ثياب الجسد وفرّ عارياً إليها.

والوجود ماء لا يشرب من حوضه إلاّ من أنكر نفسه ورماها في الظُلمات حيث موطنها.

والوجود نبيذ لا يشرب من كأسه إلاّ من وصل لحقيقة الحقائق التي لا حقيقة بعدها.

فأغمض عيناك يا بُني واستمع إلى لحن النجوم وموسيقى السماء وأنشودة الصمّت المُقدس. فقد ترى مالا يراه الناظرون في تأملك هذا. وإن أتتك فكرةً ما فلا ترفع في وجهها السيف ولا تتجاهل حضورها. بلّ شاهدها كما تشاهد بعينيك ذلك الظلام المخبأ خلف جفونك. 

 

أغلق مُريدنا عيناه وجلس للتأمل كما قال له راهبه. فعبر من دهاليز النفس الأليمة وملكوت الذات الثمينة. حيث زار أماكن لمّ يكن يعي بوجودها من قبل. وأكتشف ما ظن أنه غير موجود البتّة. وغُسِل قلبه بإكليل الحق وماء الورد فعاد كالطفل البريء.

 

أتى الصباح ومرّ الوقت بدون أن يشعر. ثم فتح حينها مُريدنا عيناه وكان قد عثر على مُراده. فحدّق في كل شيء حوله وكأنه يراه لأول مرة. ثم دخل إلى الكهف يبحث عن راهبه ليخبره بالجنّة التي وجدها ولكنّا حكيمنا كان قد غادر بدون أن يُخبره. غادر حكيمنا وترك خلفه جثته مرميةً على مضجعه. وترك من خلفه إرثاً عظيم سيخلفه تلميذه من بعده ليوزعه على الطالبين للحب المقدس والنشوة السماوية.

 

عندما حضنّتُ الآلهة

 

بين الرياح التي تُحرّك أوراق شجر الموز كنتُ أُحذق في نجمةً تطفوا في فراغ الوجود … ظلّ جسدي ساكنًا بين أنفاس التأمل على عُشبً مُبلّل رطب، أمّا أنا فغادرّتُ جسدي ذاهبًا للحجّ والطواف حول تلك النجمة المقدسة

 

فقال لي الوجود بلا صوت في منتصف طوافي:

 "تعال يا بُنيّ واحّضُنّي، فأنت قطعةً مِنّي وأنا قِطعةً مِنك، فإذا غمرّتُك غمرّتني، وإذا غمرّتني غمرّتُك"

 

فقلتّ له في صمت:

"كيف أحّضُنّك وأنا لا أراك يا فِلذة كبِدي ويا أبي السرمدي؟"

 

فقال بصمت وهو الصامت الأبدي:

"إذا حضنّتَ نفسك فإنك حضنّتني، وإذا كفّرّت البشر فإنك كفّرّتني. وإذا لعنّت إنسانً فإنك لعنّتني"

 

فقلت له: " ما الطريق إليك لإيجادك؟"

 

فقال الوجود بعد أن ضحِكَ مُستخدماً صوتي وملامحي:

" إذا وجدّت نفسك وجدّتني، وإذا غابتّ عنك نفسك ستُؤمن بوجودي من كتُب يستلهمها عقلك وهلاوسك.

فاتّبعني ولا تتّبع من يتّبعني

إستمع إليّ ولا تستمع لمن يتحدث بأسمي

إسلك الطريق المجهول وحيدًا وحذاري منّ إتباع رجالي ودُعاتي وقُدّاسي ورُهباني القُساة الذين لم أنّفُث ريح الحب والسكينة في قلوبهم يوماً

وإن إدّعوا السكينة قاسمِين بإسمي فلا تُصدّقهم

واسجد للحب ولا تسّجُد ليّ … فإنّي لم أُوجِدّكم لكي أستعبدّكم وأُهددّكم

فإني أنت، فكيف استعبد نفسي بنفسي

فإذا سجدّت للحُب فإنك سجدّت لنفسك

وإذا سجدّت لنفسك فإنك سجدّت ليّ

وإذا وجدّت نفسك فإني أنا نفسك جالساً بين حاجبيك وأسقي ورود ناصِيتك بماء الزهر المُقدس ترحيبًا بك وبي.

 

الإله المفقود

 

أبحث عن ذاتك الضائعة في الصحاري، وحاول أن تجدّ الصانع المفقود بين النجوم. وفي حين إيجاد الذات الضائعة! أُربط لسانك بخيطً من حديدً كثيف، وأولى لك في حينها أن تجلس للتأمل وأن تُطِلّ الجلوس وتلتزم الصمت الأخرسّ لتتفادى الوقوع في مصّيدة النصف متنور فتصبح شيطان الزنّ بجهالة. في هذه الصدّمة لا تنطق مجاهرًا أمام الصُمّ قائلاً إن الذات هي الصانع بذاته وإنّي كنتُّ أدور حول ديّلي. ففي هذه القذفة إنسى الذات والصانع وإنسى النسيان بذاته.  ثم إنّكر ذاتك أولاً، ثم انكُر الوجود في الثانية الاخرى. وكنّ ريحاً تهمس فوق النهر الساكن وتعبر بين أشجار البانبو. وأخيرًا ذُبّ في الفراغ واختفي فيه كما يذوب السكّر في الماء ولا يبقى له أثر. حيث لا صانع ولا مصنوع، لا جسد ولا روح، لا ذات ولا نفس، لا موت ولا حياة. هنا يكتمل تفتُّح زهرة اللوتس، هنا تكتمل نعمة ساتوري، وغبّطة النيرفانا، وأبدية موكّشا.

 

هكذا أرى اليوتوبيا

تعالوا يا أفلاذ الوجود المتنورة فقدّ وُضِعتّ أعمِدة الحقّ في أرضكم اليوتوبيا الجديدة… ووقفَتّ على أساساتِها المستقيمةِ أسقُفّ رحمتكم الواسعة يا منّ ضيّق المجتمع إتّساع وهج مصابيحكم المشرقة  … ادخلوها بالتسبيح للحب والتهليل للإنسانية بلا تفّريق حتّى يصل صوتكم إلى أبعد غيمةً فتهرُّها هزاً ليضرِب رعّدُها ويسّقُط غيثُها لأربعين يوم وليلة … ادخلوها مُتعانقين بقلوبكم قبّل أن تُعانقوا بعضكم بأجسادكم … ولا داعي لنزع حذاءكم قبل دخولها واكتفوا فقط بنزع ثوب الثرات والمعتقدات اللذان يُفرّقان بين الأنسان وأخيه … واسجدوا لبعضكم بالرضى حتّى يُصبح الحب بينكم عبادةً مُقدّسة منزوعةً من وثنية التفّضيل والآنا … إمشوا عُراةً أو إرتدوا قُماشاً فلا أحد يتدخل في أبدانكم منازِل أرواحكم الحرّة … قُمّ بتقبيل حبيبتك بين شلاّلات اليوتوبيا فلنّ يتدخّل سيف الكره وكبّت الطُهّار بين شِفاهكم ليمنعهم من الإلتقاء والعناق في أرض الحب والجمال  … وكُلوا من فواكهها وثمار الفكّر والرُقيّ اللذان فيها قبّل أن تأكلوا من شعيرِها وخُبّزِها فتشبع بطونكم وتجوع رؤوسكم وتعّطش قلوبكم … وتجنّب دخول خِيمّ الطُهّار اثناء تجوّلك خارج المدينة حتّى لا تتلقّى منهم العدّوى فتُعّدي بها أخوتك الانسانيين الأبرياء بجهالة … فقد إدّعى الطُهّار يوماً أنهم استمعوا لصوت الحرية في طهارتهم وما علِموا أنه صوت أغلالهم التي يجرّونها خلّفهم، فخُيّل لهم أنه صوت الحرية … 

 

شيء من الكشف والتجلّي

 

لما فتحتي لي أبواب الحقيقة يا ألحان الناي المُقدّسة.

لما جعلّتي مخارِج حروفي تتبعثر كُلما حاولّتُ أن أُصوّرَ لأحبّتي ملكوتكِ الذي تتطاير أسراره من بين ثقوب الناي على هيئة لحن يلّمس الروح قبل المسامع.

ما الذي فعلته لك يا بنذير الحقّ لتجعلني أرقص في عالم غير هذا العالم حتّى أصابني الجنون السماوي وعجز الطبّ الأرضي على كشّف عِلّتي.

لطالما أردّتُ الاستمتاع في أطراف الحقيقة وحّدي في سرّ وكُثمان، ولكنها الرغبة في العطاء ما جعلتّني أُجاهد في إفشاء موطِنها العتيق حيث تعثرون على الحق فيها. ولكنّ هيهات ثم هيهات! فكيف لي أن أرشدكم إلى مكان لا تدخله الأجساد يا أرواحي الغالية الخفيفة التي ترتدي الجلّد والعظّم الثقيل.

فناوليني يا سماء الحقّ قلمًا لا يعجز على كتابة ما عجِزتّ أصابعي عن كتابته. أو أُفردي بساط الخضار من أعلاكِ حتى يسقط قعّره المُبلّل على الأرض، عسى أن يصعد الكُل إليكِ وتوفّري عليّ عناء تسليم ما يصعُب عليّ تسليمه.

فما الذي فعلتيه بروحي وفكّري يا حقيقة الحقائق حتّى يصيبهم ما أصابهم من سحر الجمال والذرّوة؟

فقد جعلّتِني أشعر بالوحّشة والغُربة مع البشر بما فيهم أهلي وناسي، بينما جعلّتِني أشعر بالنشوة والأُنسةِ في خلّوتي مع ذاتي. فأخّتلي بها لقرون تلّ والقرون بدون أن أشعر بالزمن.

فلطالما ظننتُ أنكِ شيء قابل للشرح بالكلمات يا أيتها الحقيقة المقدّسة، ولكن لم أكن أعلم حينها أن بعض الظنّ إثم. 

 

كوب قهوةً فرنسي في ضواحي لندن

 

مثل كل صباحاً عندما يستيقظ الديك ليصيح عالياً ويوقظ معه بصياحه تلك الشمس التي كانت نائمةً في الليلة الماضية، لكي تصعد إلى السماء بلونها البرتقالي، ثم تُعطي تحيةً لسكان الارض بنورها الهافت الرومنسي.

 

فهكذا كنت أنا وكوب قهوتي وحبيبتي نشاهد حضور الشمس المُبجّل عند كل صباح، لنستمع لمحاضرة صمتها وسكونها وكأنها متصوفةً لزمت صيام الصمت منذ بداية الوجود.

 وأقسمَت على عدم الحديث عن سرّها حتى نهاية العمر والدهر،

لتكتفي فقط بالصعود للأعلى صباحاً وتكتفي بالنزول إلى الأسفل ليلاً، لتذكرنا بطاقة الوجود التي تصعد في مراكز طاقة اجسادنا صعوداً ونزولاً في كل يوم مثلها.

 

وها نحن نراقبها من مكاناً ليس ببعيد عن مدينة الضباب وركض الموظفين وتسابق المتسابقين، جالسين في مقهى يُسمع بين فراغات نوافذها صوت حفيف الرياح الداخل منها، ويُسمع فيها صوت قُبلات العشاق الخفيفة الخارج منها، وكأن المشهد عبارةً عن تدفق الداخل مع الخارج في سمفونيةً أحب أن أسميها بسمفونية الحب.

 أما بؤبؤ عيون حبيبتي فقد سحرها الحب فلا تزال تراقب شروق الشمس كل هذه المدة. أما أنا فتمعّنت النظر في بريق عينيها حتى نسيتُ قهوتي السوداء على الطاولة لمدة طويلة لتتحول إلى مشروب باردً مُتجمد غير صالحً للشرب.

 

فتقدمت إليّ النادلة الفرنسية ذات الشعر السلس الذهبي وهمست في أُذني قائلةً:

 

" لقد نسيت شرب قهوتك يا زبوننا المُعتاد، فهل الخلل يكمن في جودة القهوة أم في جودة يداي اللذان أصابهم الجفاف من القهر ولم يُرطّبهما آياً من مساحيق التجميل التي في هذه الحياة.

 

فقلت لها ريثما كنت أحدّق في عشيقتي التي خطفت عيناي ووضعتهم في سجّنها ومنعتهم عن الحركة:

 

" أيتها النادلة، لقد تركت القهوة التي تحفز دماغي في كل صباح، لأنني شربتُ من شفاه حبيبتي التي تحفز روحي في كل يوم وثانية، ولم أعد أرى غير خَضَار الحياة في كل مكان، فحتى نور شروق الشمس لم أعد أراه في اللون البرتقالي المألوف الذي يشهده الجميع، فقد أصبحت أراه أخضراً كخضار أوراق الجنة التي تقبع في أرواحنا العميقة هناك. وشدة جمال اخضرارها سبب لي طمعاً في القطف من أحد ثمارها اللذيذة ولكن خِفتُ أن أُرّمَي من جنة الروح ملعوناً لأقع في الأرض المسكونة بأحطاب الجحيم مجدداً.

 

فرحلة صعودي كانت أشبه بصعود هرماً فروعني محفوف بالمخاطر من كل جانب، والسقوط منه يؤدي لموت الجسد وفناءه لا محالة. ولكن قمّته تستحق كل هذه المجازفة للصعود إلى جنّتنا التي تقبع في مقدمة أهدافنا الأولى، وأن نخرج من جحيمنا التي نصنع لهيبها في أيادينا الشيطانيتين التي تحرق كل شيء تلمس".

 

فجلسَتّ النادلة في طاولتنا وهي تحدّق في همساتي وروحها أخبرتني بعاصفةً حدثت في جوفها لم تكن في حُسبانها، مما جعلها تسحب سيجارةً من جُعبتها لتشعله بنيران قلبها الذي أحترق شوقاً وعشقاً.

 

فذَرفت دموع النادلة بدون ملامح على وجهها تدل على البكاء، ورفَعَتّ يداها اليُمنى حامِلةً بين أصابعها ورقة الاستقالة من هذه المقهى كنادلة ترفع الأكواب والاطباق، لتستقيل من الأرض الدنيا لتعمل في وضيفة الباحثين عن ذواتهم التي ضاعت منذ زمنً بعيد، إلى أن تبلغ سن التقاعد بعد سنوات طويلةً في البحث والتجذيف هنا وهناك، وعسى أن تحصل على الاستنارة التي ستعطيها دخلاً روحياً أبدياً لم يحصل عليه أغلب من وصلوا إلى سن الشيخوخة اليائسة.

 

فنظرتُ أنا والنادلة إلى حبيبتي في أنن واحد وكأنه حدساً راودنا سوياً لننظر لها بدون اشارةً مُسبقة، لنجد عيناها لا تزال تُحدق في الشمس التي تعمّدت أن تتأخر في الشروق حتى تستمع لباقي حديثنا أثناء صعودها، أما القمر فقد أصابه الثَمَلّ والعشق من الجهة الأخرى بعد سماعه لحديثنا عالناً عدم خروجه في هذه الليلة.

فصفعتُ عشيقتي بُقبلةً لطيفةً على عينها الثالثة لكي تستفيق من تأملها للشمس، فقد حان موعد تأملها معي ومع صديقتي الجديدة التي لم تعدّ نادلةً بعد اليوم.

 

واستمر حديثنا الروحي لزمناً طويل لا أذكر طوله، لتمرّ الساعات بدون أن نشعر، لنجد أن الليل قد حل لتنحلّ معه عُقدة أنفسنا لنسقط نائمين على صدور بعضنا اللذين ظلّوا ينبضون ببطيء من الحب. وظلّت أجسادنا مرميةً على بلاط المقهى حتى قدوم فجر اليوم الثاني ولم نصحى، ليستغرب من مظهرنا كل الحاضرين المتلهفين لشرب قهوتهم الساخنة الصباحية، ولم يعلموا أننا نحن النائمين على الأرض كنا متلهفين للقهوة مثلهم، ولكننا الأن اصبحنا متلهفين للخلود في أبدية الحب، وها هو الحب يفعل بنا الأن ما يشاء في غيبوبتنا التي نقلتنا لعالم الروح والخلود، لتظل أجسادنا مرميةً على الارض لتثير الجدل للناظرين إليهم بعيونهم المادية المحسوسة، فلو نظروا بعينهم الثالثة لأدركوا أننا لسنا هنا أمامهم، ولكن وهم الحواس يخدعهم بوجودنا، كما تخدعنا أعيننا التي تظن أن الشمس تشرق في خارجنا ولم تعلم أن شروقها يحدث بداخلنا. فهل أدركتم سر الحكمة المطلقة يا أولوا الألباب.

ملك السماء

 

 لم تشرق الشمس بعد، ولم أسمع صياح ديك جارتنا، ولم تُشعل جدّتي ألحان أم كلثوم كما تفعل كل صباح.

فلم أعد أهتم بالشروق ولا بالغروب، بقدر اهتمامي المصاحب بالشفقة أتجاه السماء التي أصبحت ساحةً يتصارع فيها الظلام والنور منذ الأزل، فتأتي شمس الصباح صاعدةً بلهيبها لكي تُذوّقها من وهج حرارتها وتسكن في كبَدِها لنصف يوماً أو يزيد، ولا تزال هذه السماء صابرةً كصبر الصابرين الذين لم يروا نتاج صبرهم. فتغرب الشمس من هنا، فيأتي الظلام الموحش من الجهة الأخرى لكي يخيفها بعد أن احترقت واكتوت من لهيب الشمس بلا هدف او طائل.

 

كم انتِ مسكينةً أيتها السماء، تبكين في صمت ولا أحد يمسح دموعك، فالبشر يُسمون بكاءك المتساقط باسم الأمطار، ويشربون منها ويعيشون بها ويُسمونها أرزاق.

 فلا تقلقي إذا تغذّوا على دموعك، فهم يتغدون على لحوم بعضهم، وإذا شاءت الحاجة ابتدعوا معتقدات تِبيح لهم شرب دماء بعضهم بلا ضمير او حياء.

 

فقالت السماء بعد أن مَسحتّ دموعها:

 

" هل هم أولئك الذين يسمون أنفسهم باسم الأنسان؟

 

فقلت لها بابتسامةً وزفير طويل:

 

" نعم هم".

 

ثم أغمضتُ عيناي للتأمل في عالمي الداخلي العميق تاركاً جسدي تضربه الرياح في عُزلتي البعيدة عن المدينة الصاخبة.

 

فنزل ملاكً غريبً من السماء يُصدر صوت غقغقة الصقور،

ولم يلبث إلا ثواني وجلس أمامي في تأمل ثم قال بصوت يشبه الصدى:

" لا تقلق، أنا حورس عظيم السماء، ولا أهّبِط إلاّ للمنعزلين عن العالم. فقد أصابنا الملل في عالم الأثير، ولم تدخله أرواح المتأملين منذ زمن بعيد. فأصبح كأنه قلعةً مهجورةً تركها سُكّانُها وتجمّع الغُبار في غُرفِها وممرّاتها حتى أصابها العفن.

 

 ثم حَفر بيداه حفرةً صغيرة في الأرض في اقل من ثانية، وقال لي وهو يتنهّد مُبتسماً:

 

" إدخل رأسك في هذه الحفرة وحدّق جيداً بعيني التي تسكن بين حاجبيك".

 

فأدخلت رأسي ببراءة، فرأيت نفسي من الأعلى أُحدّق في جسدي الذي رأسه داخل الحفرة وكأنني شخصان، ثم نزعتُ رأسي سريعاً وتقيأت على جناح حورس من هول اختلاط الحواس وصعوبة الدماغ في ترجمة ما هو أكبر منه، كالمشهد الذي رآه للتو.

 

 ثم قال لي عظيم السماء بعد أن أخرج صوت غقغقة الصقور مجدداً:

" لقد تعلّمت الدرس، فيجب أن تتقيأ كل معتقداتك التي تعرفها لتتمكن من رؤية الحقيقة التي لا مُعتقد لها ولا هوية تدعمُها. فالحقيقة رداء المتنورين.

 

رسائل الملاك من الملكوت البعيد ‏

 

ها قد نزلت رسالةً يحملها ملاكاً مُبجلً ذو ريشً أبيض وسيفاً مربوطاً في خصّره وكأنه أميراً لغيمةً من الغيوم.

 

 فاستمعوا لرسالته يا أيها الأقوام!، فقليلاً ما تهبط الرسائل في مواسم القحط والجفاف الروحي. ‏

 

تقول حروف الرسالة التي أُمسِكُها بين أصابعي التي ترتجف من شدة برودة الأوراق التي أتت من ذلك المكان البعيد عن الأبصار: ‏

 

"في قلب الأنسان يكمن الوجود، أما العينان ترى انعكاس ما في القلوب على هيئة موجودات محسوسة. ‏فالمطلوب فيك وأنت المطلوب بذاته. فلا تبحث عنه في المرآة، فما المرآة إلا انعكاس ما في القلوب. ‏والقلب نوعان، أحدهم محسوس والأخر روحي. أما القلب المحسوس فيدُق بسبب توأمه القلب الروحي، فالقلب الروحي لا نجده إلا في التأمل، وبدون التأمل لا نرى جدوره ولا أربابه ولا دلالته، فطريق السير لا نراه إلا بوجود المصباح الذي يرشدنا فيه، وبدون المصباح غابت الطريق، فكذلك هو القلب المحسوس، لو غاب عنه قلبه الروحي الذي يرشده! لتحول لمضخةً للدم ليس إلا، كما هو حال العامة، وهذا ما يميز الخاصة من العامة ليس أكثر، ومن سِمات السماء أنها عالية وعلوها يعلوا الحواس فلا تراها الأبصار، فبصيرة الأبصار النائمة وحدها ترى مالا يراها الناظرون من سماوات خارجةً عن الحواس. ‏

والمتأملين ثلاثة أنواع، ‏أحدهم ينام بسبب التأمل، أما الأخر فيستيقظ فيه، أما الأخر فيسبب له الضجر. كالكحول الذي يجعل البعض ينام، بينما يجعل البعض في انتشاء ونشاط وحب، بينما يجعل الأخرين في صراعات. لأن سر الأداة يكمن في المُستخدم لا في الأداة بذاتها، فلا توجد أداةً سيئة، ولكن يوجد مستخدم سيء. ‏

 

ومن سِيم أهل الطريق أنهم ليسوا من أهله، فمن يدّعي الطريق فطريقه مُعّوج. ومن يلزم الصمت عن الإجابة، فهذه دلالةً على أنه مشغولاً في السير فيه، فهو من أهله وينكر أنه منه.

 

فنكران الذات ليست بالأمر السهل، ومن أنكر ذاته وجد ذاته. ‏

ففي السماء عدّة أبواب، وكل باب يحكي قصة، وكل قصةً مختلفةً عن قصة أختُها التي في الباب الذي بجوارها.

فالهدف هو إدراك ما خلف الأبواب لا قصصها المعلقة عليها،

فالقصص ديكورات سطحية على الأبواب، أما الأبواب بذاتها فهي هدف ثانوي. وما خلف الأبواب هو الهدف الأولي. التسوّل شيء محبوب إلى النفس البشرية، فتحب أن تتسوّل السماء طلباً لفتح أبوابها، ولو توقفّت النفس عن التسوّل وفتحت عيناها الممتلئة بالدموع لأدركت أن الأبواب مفتوحةً من البداية ولكن الدموع حجبتّ عنها الرؤية. فقد كانت العيون تبكي على أبواب مفتوحة بسبب عميان بصيرتها، كالطفل الذي يبكي أمام ثدي أمه طلباً للطعام. ولو فتح عيناه الممتلئة بالدموع لأدرك أن الثدي أمامه والطعام أمامه، فقليلاً من مسح زجاج العقل بمساحيق التأمل والوعي حتى تظهر لنا الطريق واضحةً بلا أوساخ، فالوضوح أهم من الطريق نفسه". ‏

 

"انتهت الرسالة".

 

تواصل المُكون الازلي مع المُكون الزائل

 

ينطق الأزلي في قلب المسكونين فيه على ثلاث درجات ومقامات متفاوتة. ليس في تفاوتهم أفضليه، بل تنوع التواصل كسراً للمعتاد لا تفضيلاً لدرجةً دون الاخرى.

 

·      الدرجة الأولى:

حدساً قلبياً ببيان عاطفي مجهول الأدلة ولكنه واضح الصورة.

 

·      الدرجة الثانية:

همساً ورؤية تلمس ذات المتأمل في ذاته، سواء في صحواه او نومه.

 

·      أما الدرجة الثالثة:

درجة الصوت والسمع والبرهان، فتحدث صوتياً للمستمع لذاته بذاته.

وهذه أنذرهم وأقلهم حدوثاً، ولا ينطق الأزلي في جوف الزائل إلا إذا كان الزائل في درجةً من درجات الوعي حيث يقدر على الفناء وتجاوز الزائل أي الجسد، ليصل لذاته الأزلية بالرغم من اتصاله البسيط بجسده بالضرورة. حيث يكمن تواصل الطالب والمطلوب، أي الأزلي الدائم مع الزائل الذي فَنَى ليصبح أزلي مؤقتاً ليلتقوا خارج الزمكان في اللاهناك أو اللاهنا.

 

أو تكون بشكل رسالةً من أنسان أخر بصوته لك، كتشجيع أو تحذير أو تسليم رسالة. وقد يحدث التشويش بين الدرجات أو تحدث هلوسةً من الفكر فيتوهم المتواصل أنه تواصل مع المطلوب. والتأكيد يكون مبني على تزامن ما تم إدراكه في أحد الدرجات مع الأحداث المحسوسة التي يُفترض أنها تكون متوافقة مع ما تم إدراكه داخلياً مسبقاً. اي لا يكون تعارضاً بين العالَمَيّن. وحدوث هذا النوع من التواصل أي الدرجة الثالثة، يتطلب صفاء القلب وإفراغ الكأس من كل قطرة ولو كانت لا تُرى. فهنا ما يهم هو الفراغ، لا كثرت ممارسة الطقوس، وإعادة ملئ الكؤوس.


الإذن الروحي

 

عندما يُأذن للروح بأن تتجلى على سطح ملكوتها لترى ذاتها من فوق ذاتها، يرى المرء حينها ما كان مخفياً عنه.

 

 فابكي فأنت لست الباكي، أضحك فأنت لست الضاحك، تنفس فأنت لست المُتنفّس، أُكتُب فأنت لست الكاتب، فلا شيء هو أنت،

واللاشيء هو أنت. فأنت أنت ولا شيء حولك غيرك أنت.

 

جسدك يسجنك فيه فأنت لست هو، فهو كالبحر الذي يحضن السمكة، ولكن البحر ليس السمكة، فتظن السمكة أن بطن البحر موطنها، فيُحجب عنها رؤية ما فوقه، ويظن الأنسان أن الجسد موطنه، فتُحجب عنه رؤية ذاته.

تخلى عن موطنك المزعوم، ليتجلى لك موطنك الأصلي،

فلا موطن للذات غير ذاتها، كما لا موطن للحب غير الحب.


البداية والنهاية

 

لم تبدأ الحياة، ولن تنتهي لغياب بدايتها أساساً، فما هي البداية التي تبدأ منها الأقوال أو الأفعال والأجساد والجمادات أو الحياة أو بداية كل البدايات حتّى؟، فلا توجد بداية لنبدأ منها البداية،

ولا توجد نهايةً ننهي بها خاتمة الأمور التي لم تبدأ. فالبداية والنهاية خدعةً تُشعرنا بالأمان في هذه الأرض التي تلتف حول نفسها. بل وجودها ووجودك وهماً تستنبطه الحواس، ولولا الحواس لما توهمّنا أننا هنا أو هناك. والهُنا والهُناك ناتج بسبب الحواس التي ترى الثنائية لا وِحّدة الموجودات التي لا تتواجد جدورها ولا أربابها في هذا المحيط المحسوس.

 

فولادة الصبي تبدوا وكأنها تبدأ بدايتها من الجنس كما نظن،

ولكن الجنس ليس البداية، لأنه يجب أن يحدث بسبب مجهود جسدياً كمسبب بالضرورة، وحركةً تنتج ما نسميه الجنس كنتيجة، والحركة والمجهود تحتاج الصحة من العظام والأعصاب والنفس كسبب أوّلي يدعم السبب الذي سوف يليها أي القدرة على إحداث الجنس كنتيجة، والنفس والعظم والصحة يحتاجون اهتمام كمسبب لحدوث نموهم أو ظهورهم، والاهتمام يحتاج بدوره مسببً بالضرورة أي من يهتم به ليهتم بنفسه وبغيره كنتيجة.

 

فالبدايات والنهايات ليست أكثر من اجتهادات العقل في تفسير ظواهر الأمور أو حتى باطنها، وما العقل إلا لعبةً وأداةً من أدوات الوجود، فالأداة العقلية أي العقل لا يمكنه أن يُدرك بدايته ووجوده لأن سر وجوده ليس فيه، فلا يوضع السر في الأدوات ولكنه يوضع في الجوهر نفسه أي وعي الكيان كجوهر، وليس عقله كأداة. فلا نحن بدأنا، ولا نحن نبدأ، ولا نحن ننتهي.

فنحن خارج الزمكان في أبدية الأبدية نحلم بوهمً يسمى وجودنا،

رغم ادّعاء الحواس أنها تُدرك ما تحسّه وما تراه وتسمعه من خلال الحواس المحسوسة، رغم أن الحواس بدورها محصورةً بالجسد والزمكان نفسه، ولهذا لا يُعول عليها.

لأن ما تراه بشكل يومي يُصبح معتاد عليك بسبب ظهوره المستمر، وهذا على عكس رُؤيته في المرة الأولى قبل أن تعاد عليه حواسك حيث كان غريبً ومخيفاً ومشكوكاً فيه،

ولهذا نظن أننا موجودين في الحياة بسبب اعتيادنا على رُؤيتها ورُؤية ما حولنا بشكل معتاد ويومي ومستمر، وإن كسرنا اعتيادنا هذا! ظهرت حقيقتنا كأرواح تحلم أنها حية في حياة وهمية، وتظن أنها تعيش في زمكان يبدأ فيه الجسد كسبب، وينتهي كنتيجة. 


أخبروني يا قوى الطبيعة

 

 أخبريني أيتها الأرض بعد أن تطلّقّتُ من البشر ثلاثاً وتزوجّت بكِ فُراداً. وأكلت من ثمارك وسَكِرتُ من نبيذك وتأملتُ في حديقتك واستيقظتُ على صوت عصافيرك التي تُغني فوق رأسي كل صباح.

 

أخبريني متى يولد الأنسان فقد امتلأت تُربتك بالسِباع؟

 

فقد سمِعت بظهور أقوام يُسمّون أنفسهم بشراً وما أراهم إلا غوريلات فطَمَتّ نفسها عن أكل الموز لتستبدله بأكل اللحم والدم، وإذا لم تجد ما تأكل أكلت بعضها.

 

وقيل إنهم توقفوا عن المشي الرباعي وأتقنوا المشي الثنائي على أقدامها بعد أن تعلّموا الهرولة حُفاةً في الغابات.

 

فهل هذه سلالةً جديدةً من سلالات الشمبانزي؟ فقد رأيت أحدهم يمشي بدون وبّرً يغطي لحمه، وكان أمّلس الجلد، قاسي القلب وخشن الطباع ودائماً ما يمشي عكس تيار الطبيعة!

 

ويتمتم في نفسه قائلاً بتغطرس:

 

" أنا محور الكون! وكل شيء هنا من أجلي أنا ".

 

فلا أعتقد أن هناك خطأً فيما يقوله، لأنه هكذا يعتقد ويفكر الشمبانزي.

 

 الأرض تجيب قائلةً:

 

" يا بني! توقف عن السؤال فأنا مأمورة، وإنني مثلك لا أدري ما الذي يمشي على أرضي ويزرع في بطني الأشواك.

فدعني أدور حول نفسي في نظامي الشمسي كالمجنونة بلا هدف، حتى يصيبني الدوار وأتقيأ كعادتي في الفضاء الذي لا نهايةَ له".

 

نظرّتُ بعدها للسماء وقُلتّ:

 

"أخبريني أيتها السماء! مالكِ لا تتحدثي معي!

مثلكِ مثل الشمس والقمر تصوّفتم وصُمّتم عن الحديث وتركتموني أصرخ بالحقيقة وحدي بين بشراً تعتقد بأن صراخي بالحقيقة نُباحاً لا يختلف عن نُباح الكلاب!

 

 أخبرني أيها الجبل!

هل هناك من زار كهفي بحُجّة البحث عن ذاته؟ أم أنه لا يزال مهجوراً ومسكوناً بالأفاعي والديدان اللذان استناروا فيه قبل البشر التائهة.

 

وأنت ايضاً يا جبلي! وأنت ايضاً مثلهم لا تجيب!!،

ولا أسمع منك شيئاً غير صدى صوتي الذي يتردد بين جدرانك التي أتحسس برودتها في نُخاع عظامي!

فها أنا ذا أيضاً ألتزم الصمت مثلكم فإنني أعلم أن تفاهة ما نراه يتطلب حِكمة الصمت إلى الأبد.

 

ففعلاً! الصمت علّمني الكثير، على عكس ثرثرة المدارس التي علّمتني معرفة كل شيء حولي إلا نفسي ومن اكون.

 

سحقاً! فقد تعلّمنا العلم لكي نتكبّر به، كالشمس التي تتكبّر بنورها ولا تعلم أنها تحترق، ونورها ليس إلا بسبب احتراقها.

 

كما نحن حمقي! نحترق بداخلنا لنُظهر نورنا الكاذب.

ونعصُر أرواحنا بالكبّت والقصص الأسطورية ظناً منا أننا سنُخرج المِسّك بعد عصّرِها، رغم أنها لا تُخرج إلا القيّح المتعفن المكبوت المعتاد.

 

ثم نقول نفاقاً:

 

"ما أجمل رائحته، وما أطهر لونه الملائكي ".

 

كالأم التي ترى نار الكراهية والحقد مشتعلاً في قلب ابنها وتقول:

 

" لا تخافوا منها، فإنها ناراً مقدسه نتبرك ويتبرك الناس منها."

 فشكراً يا معلمتي الشمس على كل حال، فقد علّمتِني أن أُشرق في الصباح واغرب في المساء إلى ذاتي.

 

شكراً يا معلمي القمر، فقد علّمتني الغَزَلّ والحب من وهجك الخفيف.

 

شكراً يا معلمي الجبل، فقد علّمتني الصمت الذي أسّمَعني صوت صدى ذاتي المنّسي.

 

شكراً يا معلمتي السماء، فقد علّمتّني أمطاركِ أن أسكب ماء حبي فوق أراضي الخلائق، وان أسبب القحط لمن يجفف مائي ويلعنها صبحاً وعشيه.

 

شكراً يا معلمتي البومة، فقد آنسّتي وِحّشتي في ليالً لا يبقى فيها أحداً مستيقظاً غيري، وللأمانة أقولها لكِ! إنكِ أكثر حكمةً من الخلق أجمعين، لأنكِ تمتلكين حِكمة الصمت، وهما لا يمتلكونها ولا يعرفونها.

 

شكراً أيها الوجود، فارفع كأسك بجانب كأسي، نخبُكَ، نخبُكّ! ففي هذه الفوضى لا شيء أجمل من السُكّر والصمت ومشاهدة الشمبانزي الذي يحلم أنه أنسان.


عندما زارني ملِك الموت

 

في قلّب لندن وفي كبِد ضبابها حاولَتّ شمس الغروب أن تسقط من السماء في المحيط الواسع، لتصعد مكانها هيبة الليل الباردة بعواصف ورياح شكّلتّ غيوم باهتةً شبّه رمادية في صُلّب الأعالي. وجرفتّ الرياح المُقدسة ذلك العطر العابر من بين ثمار شجرةً فوّاحةً ثمارها فأرّوتّ نفسي بالحبّ وسقتّها من دُرره النفيسة.   فجأةً وأنا أشاهد تجلّي الإله الحقّ في أحداث الطبيعة، هبطَ ملكِ الموت عزرائيل بسيف القتّلِ قائلاً ليّ بصوتً عالي وأنا في صلّب الحضور والتأمل: " لقد أتيت لأنزِع روحك من بدنك المُرتجف بعد أن عمّرّتَ فيه لأعوام لا أذكر عددها".   ابتسم الإله بداخلي وقال ليّ بهدوء رغم الرياح الصاخبة التي أراها من شُرّفتي الخشبية: " تعامل معه بالِيّن يا ولدي! فإنه عبّد مأمور لا يعلم ماهية ما هو مُقّبِل عليه ... تفلّسف معه ولكنّ لا تُعقّد المُصطلحات ... أحضنّه ولكنّ لا تحكي له عنّ دروب الحبّ ... سلّم عليه ولكنّ لا تُسلّمه أمرك".   فقلّتُ للملاك الزائر بعد أن إنتهيت من التأمل: " إجلس يا بُني عزرائيل فإنّي كُنتّ مُتشوّق لقدومك أكثر من تشوّقك طوال هذه السنين لأخذ روحي.   ودعني أعّطيك شيئاً أثّمن من روحي التي تودّ أن تأخذها وترميها في مكبّ الأثير ... ألا تعلم يا بُني الملاك أن الذي أرسلك لنزع روحي هو نفسه الذي سينّزع روحك في نهاية المطاف؟ ... هكذا أنتم البشر! أقصد هكذا أنتم الملائكة ... تُطيعون وتُسبّحون بحمّد من تخافونه مع أنه جلّادكم ... ألنّ تثُبّ للحبّ ياملاكي وتحضنّ الإله الحقيقي الذي شِعاره بثّ الحياة لا إرسال الجنود لقتّلِها أو ونزّعِها ... تعال معي يا ملاكي لحديقة منزلي لأُريك بعض الأشياء الإلهية التي كانتّ غائبةً عن بصيرتك ... فتلك الأشياء أجمل بكثير من مهنة التجوّل في الأرض لسلّب الأرواح".

 

خرجّتُ في نُزهة تأملية أُعلّم فيها تلميذي الجديد الساقط من السماء، حيث مررّنا بجانب وردةً حمراء، وقلتُ له: " أنظر إلى دماء الربّ التي سكنتّ في أوراق هذه الوردة البيضاء وحوّلَتّها إلى وردةً حمراء فاقِعاً لونها بعد أن تجلّي بروحه ودماءه فيها ليُأُنِسها في وِحدتها ...   أنظر إلى تلك النافدة حيث يعيش أحدّ الطُهّار الغاضبين على الدوام ... حدّق في وجهه التعيس والمُرعب يا ملاكي وهو يصفع إبنته التي رفضتّ أن تضع قماش على رأسها بينما ينعمّ هو بشعّر عاري تضربه الرياح والعواصف ...   أنظر إلى لسان ذلك الطاهر النتن الذي لم يقلّ خيرًا قط غير التحدث عن النيران والجحيم والموت والعذاب. ولولا بركة الإله الحقيقي الذي في جوهرنا لكان لُعابه لوّث كل حدائق الحياة ومنع تفتّح الأزهار ...   أنظر إلى هذه الصورة في هاتفي المحمول يا ملاكي ... هذه صورة حبيبين نائمين في أحد شوارع العالم الثالث بعد أن تمّ منعهم من النوم في هذا الفُندق المريح بعد رحلة سفرهم الطويلة لهذه المدينة، بسبب أنهم لا يحملون ورقة الزواج الوثنية الملموسة التي لا علاقةً لها بالحب الجوهري اللاملموس ... نحن نعيش في المباني العالية ونركب العربات المتطورة، ولكنّ تحكمنا قوانين الصحراء البالية ونسير في دروب عصور الناقة والخيول رغم جلوسنا في الطائرات المُحلِّقة ...   أنظر ياملاكي إلى تلك النافذة حيث يسكن ذلك الفلاح البسيط ... أنظر إلى شفتاه التي تُتمّتم بشيء فوق وعاء الماء ليُعطيه لأبنه المريض بالحُمّى ظنّاً منه أن في التمائم يكمن علاج الأمراض ...   أنظر إلى هذه الصورة التي في هاتفي مجددًا يا ملاكي ... إنها صورة شاب عالِم ومثقف يسير جائعاً في شوارع العالم الثالث بعد أن تمّ طرّده من قِبل عائلته وقريته، لأنه رفض السجود للطُهّار الوثنيّين، ورفض التناول من وجبات أفكارهم الخيالية، وفضّلَ الشُرب من ماء الحب والعلّم والإله الداخلي بدل الشرّب من بول البعير والأكل من الموروث المسموم...   قلّ لي يا ملاكي  ... ما هو الأكثر حكمة! ... هل الإنشغال بشق القمر لسُكان الصحاري أكثر أهميةً من شقّ طريق به الحرية للنساء المُستعبدات من قِبل الطُهّار القُساة؟ هل الانشغال بتحريك الجبال الثقيلة أكثر أهميةً من تحريك أصنام الجهل التي بناها الطُهّار في أراضي المتنورين؟ هل الإنشغال بإحياء الموتى أكثر أهميةً من الموتى الأحياء؟   هل الإنشغال بالجحيم بعد الموت أكثر أهميةً من الإنشغال بجحيم الأحياء في الحياة؟ هل الإنشغال بجنةً ما في السماء بعد الموت أكثر أهميةً من الإنشغال بجنّة الحياة على الأرض؟".  

 

قال الملاك بحسرة: " لطالما شعرّتُ بشيء خطأ في نظام الوجود، ولكنّ الخوف كان يمنعني من التفكّر في العلل، واكتفيتُ بإنجاز مهامي بجهالة خشية الخشية ممّا لا أعلمه".   قلت له: " لنجلس سوياً للتأمل يا ملاكي، ومُبارك عليك الاستقالة من مهنتك القديمة".

 

قال الملاك بخوف: " ولكنّ سينتقم منّي الذي أرسلني لكي" ......

 

"قاطعته في الكلام وقلت له: " أششششش ... أنه فقط في عقلك ... لنُحطّم هذا العقل تحطيماً بالتعاليم السرية، فالإله يتواجد خلف العقل، هناك تكمن النعمة والغبطة، هناك تكمن قلعة المتنورين التي يحلمّ بها الطُهّار ولم يرونها قط. فعبثاً يحاولون الوصول إلى حقيقتهم لطالما أصنامهم تمنعهم."

 

جلس كلانا في تأمل عميق، وحضننا الإله في قلبه، حيث ذهبنا أبعد من النجوم، وحيث اختفينا في الوجود ولمّ يتبقّى منّا شيء البتّة".


تذوقي رشفةً من نبيذ الحب

 

ناديتُها بقلبي ولزِم لساني الصمت الأخرس، فسَمِعتّ النداء بالحدس والبداهة، ثم ناولّتُها كأس نبيذاً مقدساً لطالما خمّرتُه في قلبي لأكثر من مئة عام، وها أنا ذا أعصر عُصارته الحمراء الممزوجة بالحب الدّاكن في كأسها، حتى ظنتّ أنه دمُ غزال وليس بنبيذ يُذهب العقل ويجلب الوعي والحب.

 

فنخبُكِ يا حبيبتي نخبُكِ،

فحان وقت نزع ثياب الكبتّ والعودة إلى الطبيعة.

نخبُكِ يا حبيبتي نخبُكِ،

حان وقت البراءة والشفافية.

فنخبُكِ يا حبيبتي نخبُكِ،

اضربي كأسكِ بكأسي وتذكّري جيداً

 

أنه لم يشرب أحد من كأسي ولم يرقص بالغريزة، ولم يتسمم أحداً بعد تذوقه، ولم يمُت أحداً بعد شربه.

فدعيني أُقبّلك من شفَتيّكِ فلا يكتمل الرقص إلا بالقُبّلة، كما لا يكتمل القمر إلا بالنور، وكما لا تكتمل الشمس إلا بالشعاع، وكما لا تحيا الأجساد إلا بالأرواح.

 

فاقتربنا ببطء حتى التقت شفتانا ببعضهما البعض في انتشاء سماوي، كالتقاء الشمس بحافة البحر ليشكلا مشهداً يبهج المتأملين ويُسعد الراقصين، ويُداوي من فقد بصره، ويُنعش من بَصَر له.

 

وأغمضنا اعيننا وعدنا إلى الداخل حيث يكمن جوهرنا العميق،

وتركنا شفتانا يلعبان لعبة الكبار، أما نحن فقد دخلنا إلى مملكة الصغار بداخلنا.

 

فقالت لي بصوت قلبها وهي غارقةً بين أعماق الباطن والقُبّلة:

 

"لماذا نغمض أعيننا عندما نُقبّل؟"

 

فقلت لها بصوت قلبي:

" ثلاثة أماكن تُغمض فيها العيون، وهي فترة النوم والتأمل والقُبّل".

 

فمرت الايام ولم نشعر بمرورها، وكأنها ثواني تمر بسرعة.

فحينما نسبح في الأحضان يختفي الزمان، ثم يختفي المكان، ثم نختفي نحن ولا يبقي شيء غير اللاشيء بذاته، وما ذلك اللاشيء إلا القداسة بذاتها، وما القداسة إلا اللاشيء بذاته.

 

فلم تستطع الرياح الباردة أن تنزع دراعي عنها، ولم تستطع حرارة الشمس أن تفّصِلها عني، وهل هناك شيء يفصل الأرواح عن الأجساد غير الموت؟

 

ولكننا فتحنا أعيننا بغّته، بعد أن فتحنا أغوار قلوبنا وامتزجنا في رحيقهما امتزاجاً. وحدّقتُ أنا في عيناها الزرقاء التي تشبه السماء، ثم حدّقتّ هي في عيناي الخضراء التي تشبه الطبيعة.

 

فقالت لي: " لقد مَلَئّتَ سمائي غيوماً بتبخّر ماء طبيعتك ".

 

فقلت لها: " لقد سقيّتِي أعشاب طبيعتي بأمطار سماءك "

 

وبعد أن عمّ الصمت بين كلانا، قلت لها وأنا أتأمل في دوران جمال مجرّتنا في عينها اليُمنى:

 

-       هل تذكرين متى بدأنا قُبلتنا؟

-       لا أتذكر … قبل دقيقتين ربما؟

-       بل قبل سنةً كاملة، وها نحن الأن مُقّبِلين على أبواب السنة الثانية جديدة.

-       إذاً لنقضيها في قُبلةً ثانية

-       بل نقضيها في ثالثة ورابعة

-       حتى نموت أو ينتهي الوجود؟

-       نعم … حتى نموت أو ينتهي الوجود

 

ناوِليني قلم الريش يا حبيبتي

ناوِليني قلم الريش يا حبيبتي الفاتنة قبل أن تنامي، فقد سقطتّ الشمس من السماء قبل بضع سويعات، وها هي تستعد لتسلُقها مرةً اخرى بعد أن سمِعتّ أنغام الدِيك العالية التي ايقظتّها فجراً. فقد أحتار قلبي وارتبكت أصابعي بين كتابة قصيدةً روحيةً، أو رسمّ وجهكِ الذي ينيره فانوس الشمع الذي بجانب رأسك فوق خشبة البلّوط، مما أضاف نكهةً صوفيةً جعلتّ لمعان لون شعرك الأصفر الذهبي أكثر اشراقاً.

 أعلم أنني راودّتكِ في أحلامكِ عِدّة مرات، لأن أيام السنة تحمل في طياتها سويعات قصيرة غير كافيةً للتحديق في عيناك الواسعتين اللذان يشبهان مجرةً ذات أبعاداً ساحرة، ليسحب جمالها كل من ينظر فيها إلى ثُقبِها الأسود العميق.

فلم يكّفني التحديق فيك في عالم الحياة الملموسة قليلة الساعات والمدة. فأردت أن أغازلك حتى في منامك، حتى لا يتجرأ الشيطان ان يأخذك مني بكابوسً لعين. فلم يحدث ابداً أن لمسكِ شيطاناً أدمياً يعلم أن بومتي التي على كتِفي لا تخطأ في إمساك فريستها ولو بعد حين.

 فلتشّرق الشمس أو تغرب، فلم يعد قُدومها ورحيلها يعني لي شيئاً في حضورك. فوجهكِ شمس النهار، وابتسامتكِ قمر الليل المُكتمل، وحُضنكِ يُبطل عامل الزمان والمكان في كينونتي الرقيقة، لتختفي أجسادنا رويداً رويداً كلما أشتد عمق الحضن الأبدي بين كلانا. فحتى التأمل غار منكِ أيتها الصغيرة، ولم يعد يريد أن ينقلني لأبعاده الصوفية. وخيّرني بينكِ وبينه فاخترتكِ أنتِ. لأن التأمل يؤتي طوعاً أو كرهاً بعد حدوث الحب وليس قبله. فلا يؤتي التأمل بدون حب، ولكن يؤتي التأمل عندما يؤتي الحب أولاً. فالتأمل يتبع أثار خطوات الحب، وليس خطوات الطقوس والتقاليد الشائعة التي لا تترك أثاراً وخطواتً للحب. رغم ادّعاءها أنها تحتوي الحب العميق مُسبقاً.

 

القُبّلة الكلاسيكية

 

بدأ الثلج يسقط حينما كنت أُحدق في السماء.

بينما أُذناي تستمع إلى أصوات النيران التي تحرق الحطب في مِدّخنة جارتي التي تجاوز عُمرها التسّعين عام.

 

أما جسدي فكان مرمياً على الثلج هامداً بلا حركة، وذهني كان يسّرحُ في تأملاً عميق. حتى سمِعتُ صوت أقداماً تقترب مني. وكأنه صوت أقدام أميرةً مُرتديةً حذاء الكعب العالي الطويل. ومع كل خطوةً تخطوها نحوي، أشعُر فيها أن جسدي بدأ ‏يدفأ، إلى أن اختفت أصوات الأقدام التي كانت تتحرك وحلّ السكون لثواني.

 

وفجأة شعرّتُ بكف أياديٍ ساخنةً تتحرك خلف رأسي، ثم غطّتّ عيناي واغلقت الرؤية التي كنتُ أراها. وشَعرتُ أن شفاهها الصغيرة تقترب من أذني اليُمني، ولم يصّبر لسانها لثانيةً واحدة حتى بدأ يهمس في اذني قائلاً:

 

" اتبعني إلى طريق الجنوب ".

 

فلم أستطع الانتظار حتى لففتُ عُنُقي التي كانت متجمّدةً لكي أراها. فرأيتُ جمالاً لم تستطع عيناي رؤيته.

 

فصرختُ بصوتً عالي قائلاً:

 

" ارجعي يداكِ على عيناي، فنوركِ ليس مألوف لها ".

 

فقالت:

 

" قم بتقّبِيل شفتاي، فحينها يمكنك أن تراني بلا وهجاً أو نور "

 

فرفضّتُ ذلك!، ولكن غَدَرتّ بي شفتاي وذهبتّ مُسرعةً إلى شفاهها بلا استئذان. فيبدوا أن شفتاي وجدتّ مسّكنها ودفّئها وتوءم روحها.

 

وحينها أدركتُ لماذا تُغمض العيون اثناء التقّبيل العميق. فهو تأمل من نوعاً فخماً جداً وخاص. ولعلَّ الإفراط فيه يدفعك إلى الاستنارة المفاجئة. فلا يمكن للقلب الخالي من الحب أن يأخذه التأمل إلى أي مكان.

 

حديث النائم واليقظ  ( مسرحية قصيرة )

 

" يُفتح الستار "

 

أقترب النائم أمام اليقظ المتأمل في أعماقه وقال له متثائبً:  

 

-       " إلى متى ستظل منعزلاً ومُختبئ في أغوار بواطنك؟

-       بينما لسانك لا ينطق بما اكتشفتَه في وجدانك؟"

 

قال اليقظ وعيناه مُغمضة:

-       " هل القلوب قابِلةً للاستماع إلى عمّق تجلّياتِ العميقة!

-       أم أنهم سيتّهمونني بالسحر والدجلّ كما سفّهوا كل من فُتحتّ لهم أبواب العوارف العتيقة! "

 

قال النائم:

-       " إن في العُزلةِ مشقّة!

-       وفي كِتّمان السر الدّفين مشقّةً ليس بعدها مشقّة. 

-       فأمسِك القلم واسقِطّ رأسه في الحِبّر، وإن شئتَ فاسّقِه من دماء قلبكَ ليكتُب وحّيكَ على أوراق الشجر!

 

قال اليقظ بابتسامة خفيفة:

 

-       " وهل ما يُكشف في البواطن يُكتب بالحبّر والقلم! فالنُطق به يكاد يكون غير مفهوماً!

-       فما بالك كتابته على ورقاً تجعل القارئ من فحوى معناي محروماً! "

-       أمّا دمائي فقد نَشُفتّ وامّتصها الحب فلم أعد اشّعُر بجريانها في عروقي. لأُصبح روحاً بريئةً تُشّعل الشُموع في وضَحّ النهار، وتأكل عشاءها عند بداية الشروق.      

 

 

 

 

 

 

فقال النائم مُستهزأً:

 

-       " وهل وجدت الطريق إلى الحب؟ أم أنك تنتظر قدومه كالأم التي تنتظر عودة ابنها الذي سرقه الموت بعد أن رمى بجسده إلى أسفل الأرض كصدقة للديدان الجائعة!

-       فلا صبّرها أعاد لها ابنها!

-       ولا بُكائها أعاد لها روحهُ إلى مسّكنِها! "

 

قال اليقظ:

 

-       " ضربتُ صدّري ضرّب السيّد للعبد، حتى أنكسر وفتُحت أبواب الحب التي لطالما حلِمتُ بها! فخلف الصدر يتواجد القلب الذي ينّبُض ويدُقّ، منتظراً من الروح أن تفتح له البواب الى ملكوتها الأكبر. "

 

قال النائم:

 

-       " فماذا عساك فاعِلاً بما تعرفه! إذا كانت مفرداتك مجازية! ومقاصِدُك لا يفهمها العامة. ".

قال اليقظ:

 

-       " البواطن ليست للعامة

-       وشرحُها قد لا يُعجب تِلك الأفاعي السامة

-       ولهذا لا يفهم كلامي جُلّ البشر من العامة. "

 

 

قال النائم:

 

-       " هل ترى مالا يراه الناس؟

-       أم أنها هلوساتٌ جعَلَتّك تظن أنك ترى أبعد من الحواس؟

 

 

قال اليقظ:

 

-       " مِن الناس منّ ينظر إلى العالم الخارجي بالحواس، وهناك من يرى العالم الداخلي خلف الحواس.

-       والذي يرى الداخل يُقال عنه أنه يُعاني من هلاوس ومسَاسّ.

-       ولهذا قلتُ إن الحياة لا وجود لها فهي حلماً بداخل عقولنا!

-       أما الحواس فمحكومةً بالمادة وتِلك هي عِلّتُها!

-        ولو عَرَجّتَ إلى بواطنك لرأيت الحقيقةَ بِرُمّتِها! "

 

 

قال النائم وهو في حيرةً وريبّ:

 

-       " كلامك به فيضاً من الجمال ولكن! أين المنطق من خلف ذلك؟

-       أتعني أنكَ حُلماً رغماً أنني أراك بجسدك ولحمِك في عقر دارك! "

 

 

قال اليقظ:

 

-       " الحواس ترى إلى الوجود من ثُقبَة بابً صغيرة!

-       فتظن أنها تعرف العوارف ولكِنها في زنزانة العقل والمنطق أسِيرة!

-       فالمنطق ليس أكثر من فكرةً أتفق عليها عدداً كبيراً من الناس فصدقوها ثم أصبحتّ معتقداً! رغم أن بيئةً أخرى في هذه الأرض لها فكرةً أخرى مختلفةً تماماً عن البيئةِ الأولى. فابتدعوا منطِقاً خاصاً بهم أيضاً! وكل عشيرةً فيهم تُغنّي على ليلاها. فمنطِقك يقول لك أن الأنسان لا يطير! ولكن إذا صعدّت الى الفضاء سيصبح قادراً على الطيران! فأين المنطق من ذلك! فلا شيء تابت، وكل شيء متغير على حسب ظروفه. ما الذي يجعلك تظن أن أعصاب دماغك تجعلك ترى الحقيقة. ألم تُدرك أنك في وهم دماغي يجعلك ترى ما يشاء! ويوهمك قائلاً لكَ إنك ترى الحقيقة المقدّسة! فما هو الحقيقي؟ وما هو الغير حقيقي حتى؟

 

-       فعندما تنزع قلادة المنطق والعقلانية من ذهنك الذي أصبح فيلسوفاً!

-       ستتحرر من قيود الجهل التي كبّلتّكَ وجعلَتّك في قيودها ملفوفاً ".

 

صَمَتَ النائم لثواني ورفع رأسه مُحدّقاً في السماء الممطرة قائلاً بحسرة:

 

-       أعرف أن جسدي حياً يأكل طعامه ويشرب ماءه! ولكن متى سأشرب أنا من مائي فتنبُثُ جدوري وتظهر ثِماري وأُصبح حياً؟ متى تسقُط أمطاركِ على روحي فتسقيها كما تسقي قطراتها جسدي المُتمعن في فضاء نجومك في هذه اللحظة؟ متى أُشّعل الشموع في النهار أنا ايضاً، وأتناول عشاءي عند شروق شمسِك الدافئة؟

-       أعّذري يداي أيتها السماء فقد قدَفَتّ بمُجوهراتك في عمق البحر جهلاً، وها هي الأن تبحث عنهم مقاومةً لدغ أنياب الأسماك وصابرةً على التجديف في أعماق بحرِك؟

-       أنا قادماً إليكِ يا ذاتي!، أنا قادماً إليكِ يا خِلّوتي!،

-       فقد طلّقتُ نفسي ورميتُها، وتزوجتُ من روحي واحتويتُها. 

  

" يُغلق السِتار"   

 "انتهي الحوار"

 

 

 

 

انتظار ولادة الأنسان

 

حاولتُ العودة للكتابة من جديد، بعد أن سجَنّتُ قلمي بين أصابعي ولطّخّتُ رأسه في الحبر، وقلتُ له أُكتب ما يحلوا لك يا صديقي، فلم يعد لدي ما يستحق الكتابة لأنني نضجتُ وأدركتُ أن الكتابة للأطفال، وتحليتُ بالصمت الذي لا تتحرك فيه حبالي الصوتية في حنجرتي، ولا ترتعش فيه أصابعي بحثاً عن القلم. وقلتُ بيني وبين ذاتي بعد أن ارتويتُ بماء الصمت الأخرس واحتسيتُ شراب السكون المُطلق:

 

" هل سنستيقظ عندما يُغازِلُنا نور الشمس الصباحي العابر من النافدة؟ أم سنُغّلق في وجهه الستار ونعود للنوم في ظلامنا المألوف؟ متى يبّلُغ البالغين الكِبار؟ ومتى نفّطِمُ الرجال المُسِنّين؟ متى تعود الأرض والسماء مُتحدة ولا يعودوا مُطَلّقِين؟ متى نكون مُختلفين عن البشر فنُشعل الشموع في وَضح النهار ونأكل عشاءنا عند شروق الشمس؟ ومتى يولد الأنسان! فإنني لولادته أنتظر بشوق! "

 

ولكن حدّقتُ أمامي فرأيتُ أحّطاب الشر لم تنطفأ نيرانُها منذ بداية البدء، أمّا دُخانها فيمكن اشتمام رائحته حتى من حافة الكون. وعلِمّتُ أن هذا الحريق قد نتج بسبب أيادي البشر كما العادة، فلا يوجد حيواناً عاقلاً يقوم بفعل الأنسان اللاعاقل. وقلت بيني وبين ذاتي:

 

" سُموم الصراعات لا يزالُ يجّري في عروقهم ويتظاهرون بأنه جريان الدمّ في العروق، ألم ينظروا للتاريخ! ألم يقرؤوا عن الصراعات التاريخية القديمة!، أين هم أولئك التاريخيين الأن؟ لقد اختفوا واختفت انجازاتهم ولم يبقى منها غير الأوراق المُغلّفة في الكُتب، ليقرأها الكائن البشري الحديث ويستهزئ منها مُتجاهلاً أنه يمشي على خُطاهم خطوةً بخطوة. فما الفائدة من الفوز إذا كانت الصراعات لا تنتهي؟ وما فائدة السلام إذا كان عبارة عن فترةً لجمع الأحطاب والاستعداد لإشعال نيرانه الخطيرةِ في القريب العاجل؟

ولهذا نموت باكراً بسبب مرض الشر الذي يقتل أجسادنا ويكُوي اعضائنا ثم يَشُلّ أعصابنا، لكي نيّبس وتيّبس عاطفتنا كالوردة التي لمّ تُسقى بالماء العذب ولم يشُمّها الأطفال الأبرياء."

 

قلت هذا في نفسي ثُم رحلتُ إلى قمة الجبل أستمع لصوت الرياح القوية التي جعلتّ شعري يتطاير مع جريانها، تلك الرياح التي لا تحِدُّها لا مبانيً عالية ولا جدرانً مانعة. تاركاً خلفي نيراناً مُشتعلة أشّعلها البشر لتلّتهِم الجمال الذي حولهم وتلّتهِمهم هُمّ أيضاً، فلا تعرف النيران صديقاً عزيزاً! فإذا أشّعلتها ستحّرِقك أنت أولاً قبل أن تحرِق عدوك. ولكن تظل النار لا تُشكل أي تهديداً كبير، ولكن الذي يُشّعلُها هو التهديد بعينه.

 

ثُم حدّقتُ في نجمةً في سماء الكون العالية وقلتُ لها:

 

" من اليوم أنتِ صديقةِ المُفضّلة، فقد نضِجّتُ ولم يعُدّ نُضجي يتلاءم مع وضع البشر، فها أنا أتحدث معكِ يا نجمتي في صمتً فتفهمين صمّتي، فالبشر لا يفقهون قولي الذي لا حديث فيه فقد اعتادوا على الثرثرة والصِراع، أما أنا فاخترتُ أن أُحدّق فيكِ إلى حين رحيلي الى العالم الأخر، فقد نزعتُ ثوب النفس فلم أعد أشتهيه، وكسيتُ جلّدي بصوف الذات الفضّفاض، وزيّنتُ صوّفَهُ بأوراق الورود المُبلّلةِ بقطارات الندى، وعطّرتُه بماء الزهر المُقدّس. وها أنا أرتديه هنا منتظراً قدوم الأنسان وقد طال انتظاري. ولكن لا بأس!، سأنتظر قدومه مثلما انتظرتُ قدوم أمطار الشتاء في الصيف، ومثلما انتظرتُ ظهور النجوم في الأرض، بل مثلما انتظرتُ ظهور البحر المالح في الصحراء القاحلة".

 


رسالةً من الشتاء

 

رفعتُ يداي مُودعاً الشمس قبل أن تُفارقنا، فردّتّ عليّ التحية بصمتً ثم رحلَتّ لتختبئ خلف الغيوم إلى العام المُقبل، واكتفتّ بإعطائنا نوراً خفيفاً رحمةً بنا فيضيء أرضنا التي نمشي عليها بأقدامِنا صباحاً، ويُكمل القمر بقية مسيرة النور في الليل.  

لأن فصل الشتاء قد سلك طريقة إلينا راكضاً وأُذناي بدأتّ في سماع أصوت خطوات أقدامه تقترب. ليضرب بالرعد في سماءنا فيشتدّ استرخائنا تحت صوت برقه المتوهج، ويُسّقِط قطرات المطر على نوافذ غُرفتنا المُطلّة على الحديقة المُبتلّة لنراقب تدحّرج القطرات الساقطة على الزجاج، فتتغدّى عيّنانا على هذا المشهد الأرضي السماوي بعد أن ترتوي شفتانا برشّفةً من كوب القهوة الساخنة المسجون بين أصابعنا، وتنكمِشّ أجسادنا كالسلاحف في أغطيتِ سريرنا فيبدأ حينها إلهامنا في إرواء ذواتنا بما لذّ وطاب. فتتدفّأ كُفوف يدانا تارةً بزجاج كأس القهوة الساخن وتارةً بين صفحات الكتاب التي تُقلّبّ أصابُعنا صفحاته، وتارةً نضعهم بين أفخاذنا في دفئ وننام كأننا أطفال، فيزداد عمق نومنا كلما أستمرّ لحن البيانو الصادر من مكبر الصوت في العزف المُقدس، فيغدوا كل ما بداخلنا سلاماً، وكل ما بخارجنا سلاماً. إلى أن نستيقظ ونفتح أعيننا ببطيء شديد، فنجد أن المطر لا يزال مُستمراً وقد أطعمَ جميع جذور الأشجار، بل لا يزال يرقص مع ألحان البيانو التي لم تتوقف طوال تلك الليلةِ الماضية. فتستيقظ كما الملاك الطائر لتجد حبيبتك تاركةً رسالةً هاتفيةً لك تقول فيها:

 

" ها قد نزلتّ الأمطار وسقتّ جميع الورود، أما أنا فلا تزال عروقي ذابلةً تنتظر منك أن تسقيها بِقُبّلةً دافئة، وتُغدّيها بحُضّناً عميق، وتسافر بها الى ملكوتك الداخلي. فإن روحي تشّتهي أن تطير مع روحك بين ضباب هذه الغيوم الرمادية لنتوه سوياً في ذلك العدم، ونترك أجسادنا على الأرض في عِناقً عميق إلى أن يسقيهما المطر الساقط من السماء، أو يحوّلهم القَدَرّ إلى تمّثاليّنِ جامدين، ليكون عنوان قِصّتِهما هو " روحيّن كانوا قد تركوا أجسادهم مرّميةً للمطر، وسافروا لمكاناً لا تصله الأجساد ولم تراه العيون “.


أنثى ملائكية بجسد أنسان

 

كنتُ ذاهباً في طريقي فأخّبرَني حدّسي أن ألّوي عُنقي حتى تنظُرَ عيناي إلى ما هو خلفي. وفجأةً تجمّدتّ كُراتُ عيناي بين زُحام المارّةِ على وجه فتاةً لم أرى مثيلاً لها.

 

نور وجهها كأنه شمّعةً مقدّسةً أشّعلَتّها أياديً رقيقةً رطّبَها بلسم الحب وأشّرَبها من رحيق سكونه الذي أعرفه جيداً.

وجسدُها كأنه أوتاراً مضبوطةً كل واحدةً في مكانها ولم يبقي لي إلاّ أن اعزف على هذه القيثارةِ بأصابعي فأصنع لحناً من أوتارها ينسجم كلانا بسمفونيته.

أمّا عيناها الزرقاء فكانتّ كالبحر الهائج الذي يُغّرِق كل من يسّبح بداخل أعماقه، ولكن سأرّمي نفسي في بطنه وسأترك الشاطئ خلفي يبكي على رحيلي ولن أبالي.

 

بينما كان قلبي يراقب جمالها من بعيد ويُقيّم جوّهرها! غارَتّ أقدامي من اهتمامي بقلبي فأخذوني إليها بدون أن يشّعر جسدي الذي خدّرَتّهُ بمخدّر العشق.

فوقفتُ أمامها وحدّقتُ فيها بصمتً منتظراً من حدّسي أن يبحث عن موضوعاً يكون بابً لفتح الحديث بينا كلانا.

 

ثم أخذّتُ شهيقاً بصوتً غير مسموع ليُهَدّأ نبضات قلبي المتسارعة. ثم قلتُ لها:

 

" هل لهذا الجمال أسماً أم أنه لمّ يُسمّى بعدّ؟"

 

فنظرَتّ إليّ وقالت متظاهرةً بالاستغراب:

" عفواً سيدي، هل تعرفني؟"

 

فقلت لها ضاحكاً:

" لو كنتُ أعرفكِ لما وقفتُ أمامكِ أتحجّج بالسؤال عن أسمكِ متظاهراً أنني حقاً أهتم بمعرفته، ولكنني أخترتُ السؤال عنه ليكون فقط أول موضوع حديثنا الذي قد يكون مُطولاً عسى أن يبتسم كلانا ونسقط في الحب. فما رأيكِ أن أكون معكِ واضحاً كوضوح الشمس التي تغرب على يميننا في مشهد الغروب. أو صريحاً كصراحة الأطفال الأبرياء، وإن شئتِ يمكنني أن أكون شيطاناً يكذب عليكِ ويقول إنه يريد أن يكون صديقاً جديداً لا حبيبك الجديد، أو يتظاهر بالسؤال عن أسمكِ لغرض الفضول ثم يرحل، فماذا تختاري؟".

 

فوَضَعَتّ يداها على فمِها وابتسمت ابتسامةً مختلطةً بالخجل والإعجاب في أنن واحد.

وانتظرّتُ حتى أن زالتّ يداها عن فمِها والابتسامةُ لا تزال مصاحبةً على شفتيها وقالتّ لي:

 

" ما الذي تريد أن تعرفه عنّي، فأنا لستُ فريسةً سهلة، ولكن للأمانة شعرتُ أنني فريسةً يمكن أكلها وسلّقُ لحّمِها ونهّشُ عِظامها وارتداء جلّدها، فكلمات لسانكَ كادت أن تُسّقطني أرضاً في بئر الحب لو لم أتمالك نفسي وأتذكر جزءً من نصائح كلمات جدّي؟"

 

فقلتُ لها بعد أن حدّقتُ في الشمس التي أبتلعها البحر في هذا الغروب:

" وماذا كانت نصائح كلمات جدّكِ؟ "

 

فقالت والرياح تضرب في خيوط شعرها الذهبي:

" لقد علّمني جدي الذي كان بمثابة والدي أن أكون غزالةً تحّتاطُ من الذئاب، وأن أكون سهماً مسموماً يطعن بطون الأشرار وأن ...........".

 

 لم أستمع لباقي كلامها الذي تُعبّر فيها عن قوّتها كعادة أول اللقاءات مع البشر، لأنني كنتُ مشغولاً في إيجاد طريقةً أصِلّ بها إلا شفتاها التي لا تفّصِلُني عنها إلا الرياح الخفيفة المُنبعثة من بيننا، وكنتُ أُحدّق في طريقتها في الحديث لا كلماتها، فقد أظّهرتّ جانباً أنثوياً وشخصيةً قويةً في أنن واحد".

 

فقالت لي:

ما رأيك فيما قلته لك عن جدّي"

 

فقلت لها:

" هاه، أه، عفواً ... لقد كنت شارداً ولم أستمع لكلماتك"

 

فقالت بصوت منخفض:

" بماذا كنت شارداً"

 

فقلت لها:

" كنت شارداً في استنشاق عطر الياسمين المُنبعث من ثوبك الأبيض"

 

ثم أضفّت لها مازحا:

" رائحته قد أراحتّ قلبي وجعلته يفكر في مكاناً ما نجلس فيه ونُكمل حديثنا. فالليل طويل والشمس قد سقطتّ منذ دقائق".

 

فضحكِت بصوت عالي وقالتّ:

" لم أكن متسرعةً في شيء ما كهذا في حياتي، موعداً رومنسي غريب وسريع، ولو لم يُرفرف قلبي فضولاً لمعرفتك أكثر لما تكلمتُ معكَ بكلمةً واحدة. أنت غريب، وسوف أجرب الحياة مع الغرباء، فلم أعدّ اثق كثيراً بالقريبين مني".

 

 ثم اضافتّ قائلةً بابتسامة:

" ما رأيك في ذلك المطعم فطاولتنا تنتظرنا هناك". 

 

فقلت لها مازحاً:

" أعرف أن جيّبي سيفّرغ معكِ في القريب العاجل، فهكذا أنتم الجميلات، ظاهركم ملائكي، وباطنكم تاجراً كبير".

 

فضحِكتّ ضحكةً من قلّبها وذهبّنا والضحك لا يزال يرافقنا.

 

أمّا القمر الذي فوقنا فقد قال لنا:

" وجبةً سعيدة وليلةً لطيفة، وتصبحون على خير أيها العصافير الضاحكة".

 

 

المُتمرّد

 

كان الوقتُ متأخراً ولا أزال أتسكّعُ في أحد الحانات كعادتي، وساعةُ يداي تُشير على أنها الثالثة صباحاً.

حينها وقفتُ بعد أن ثمِلَتّ روحي من التأمل، وثمِلَ جسدي بسبب تسابق جريان أنهار العِنب المُتخمّر العابر من فمِه إلى بطّنه.

 

ثم قلتُ صارخاً على جميع الجالسين في الحانةِ بصوتً عالي جداً:

 

" لحظة هدوء رجاءً! فلديّ نصاً مكتوباً يستحقّ أن ينطق به لساني جهراً على الملأ".

 

فصمتَ الجميع في تعجُّبّ وعمّ الصمتُ في المكان حتى أصبح كأنه مقبرة.

 

وَريثما همّ يحدّقون في وجهي وأنا أّحدّق في وجههم ضَرَبتّ السماء رعداً في فراغها المُظلم بصوتً كأنه زلزال، فهزّ جميع الكؤوس على الطاولات هزاً قوياً حتى كادوا أن يسقطوا.

 

ولم نلبث لثانيةٍ واحدة حتى بدأ الجزء الثاني من الفِيلم وأسقطتّ السماء من غيومها أمطاراً كأنها شلالاً السريع، ولم نلبثّ طويلاً نشاهد هذا المشهد من النافدة في رهبةً حتى أنقطع الكهرباء على الحانةِ والجميع أشّعل الشموع وحدّقوا في وجهي مجدداً ويتساءلون إن كنتُ أن السبب في هذا الحدث الغريب أما لا.

 

وقبل أن أنطق ببنت شفة، اقتربتّ مني النادلة مُحاولةً تفادي التصادم مع الجالسين في الحانة التي لا يضئ جوانِبها إلا قليلاً من نور الشموع، بينما أغلب جوانبها يسكنه الظلام المُعتمّ.

 

وقالت لي وهي تحّمل كتاب الليالي البيضاء "لدوستويفسكي" بين يداها المُتعرّقتان:

 

" أرجو أن تكون كلماتك بعيدةً عن الحبّ فجُرّحي لم يلتئم بعدّ من طعنةِ الغدّر القديم، أمّا قلبي فلا يزال مطروح الفراش في الإنعاش، وذاتي لم تجد لِدائه دواءً بعدّ. فلى تكن سببً في إيقاف نبّض قلبي فإنني أسّعى جاهدةً لعلاجه منذ أكثر من خمس سنوات. رغم إنني أشعر أنه قد أقترب من الشفاء فقط بخطوةً واحدة لا غير".

 

فقلت لها بعد أن تنهدّتُ وحدّقتُ في عيناها التي رفضتّ أن تُسّقِط الدُموع:

 

" كلماتي قد تلّمس الحب فتغّويه فتأخذه منكِ ليتطلّقّ من قلّبكِ فتُشفين من مرضّك العُضال، وقد يكون في قولي ما يتجاوز الحبّ الذي تعرفيه، فما يُدريكِ بأحداث حلقات الحياة القادمة، فقد تزّرع الحياةُ أشواكاً هنا ووروداً هُناك، وقد تنقلبّ الأحداث فتعود الأشواك وروداً والورود أشواك، كما أصبح الظالم مظلوماً، والمظلوم ظالم ". 

 

فعادَتّ بعدها إلى مقّعدها وكانت تمّشي مكّتوفةَ الأيادي كأنها طفلةً لا أهل لها يحّمُونها، أو كامرأة أذاقتّها الحياة ما يعجز أقوى الرجال على تحمّله ولو لساعةً واحدة.

ثم طلبَتّ النادلة من الجميع أن يُركزّ فيما سأقوله في هذه الليلة المظلمة. وبالتحديد في حانتنا الصغيرة المضاءةِ فقط ببعض قِطع الشموع الحمراء الطويلة.

 

حينها تحرّكتُ ووقفتُ مُنتصباً في منتصف الحانةِ والجميع قد إلتفّ حولي في مقاعدهم وكأننا في مسّرح.

فنظرتُ إلى جميع الحاضرين وقد رأيتهم ينظرون إليّ مجدداً في صمّت، ولا شيء يضيء تعابير وجوههم إلاّ القليل من النور فكنتُ أكاد أن أرى ملامحهم.

 

فأخذتُ شهيقاً عميقاً قبل أن أنطق بالحرّف الأول، ثم رفعتُ سبابةَ يدي اليُمنى إلى السماء، ورفعتُ بيدي اليُسرى تلك الورقة التي تحّمِلُ كلماتً من فيضِ قلبي، وقلتُ لهم النصّ بصوتً عالي قائلاً:

 

" أحببتُ أن أقول لكم أيها السادة الجالسين في الحانة، قبل أن تأخذ شفاهكم رشفةً أُخرى من كؤوس النبيذ الذي بين أياديكم، أنني بَلَغّتُ من الوعي ما جعلني أجلس في سريري لسنواتً طويلةً بلا حركة أو هدف، فقد جلستُ لسنواتً لا يُمكنكم عدُّها، وقدّ سلّمّتُ أمر نفسي لذاتي فلمّ أعد ألوم نفسي على نفسِها، وإنني لا أقول قولي هذا مادحاً التكبر أو مشجعاً على التواضع، بل أقول لكم يا إخوتي إنني لم أعُدّ أشتهي الجنة وثمارها ولم أعدّ أخاف من النار وأحطابها. لم أعدّ أهتم بإرضاء أُمي وأبي بِقدر اهتمامي بإرضاء ذاتي من كل أقطابها. لم أعدّ أهتم بموت الجسد الفاني أو حياة النفس الكاذبة، لم أعدّ أُفرّق بين الرجل والمرأة فكلاهما له طريقته الخبيثةُ الخاصة. وكلاهما يلعبان دور المسؤول الكبير عن الأسرة كعادة الشعوب.

أما أنا فلا أسرةً لي أحتمي خلفها، فقد أدركتُ أنه لا توجد أسرةً تحميك من الموت إذا أتى، أو تحميك من المرض إذا هوى، أو تشفيك من الشر إذا على قلبك أتكئ.

 

لا أقول قولي هذا طالباً العداء مع أحبابكم أيها الجالسين في مقاعدكم فإنني لا أرى من ملامحكمّ إلا القليل بسبب كثافة الظُلمات في الحانة، وسأعتبر ما أراه من تعابيركم علامةً للرضى عن قولي إن شئتم، أو يمكنني اعتباره اعتراضاً إن أحببتم ذلك أيضاً. فقد حان الوقتُ لكي أنهش بيدي قبور الأجداد التي أكل عليها الدهر وشرب، وأستخرج منها العفن المُمجد، عسى أن تُدركوا أنه لم يتبقى من عاداتهم وتقاليدهم إلا هذه العظام التي ترونها. فإنني أحاول أن أهّوِي بِكم إلى بواطنكم لتعرفوا أن والدينا ليسوا إلا أسلاكاً موجبة وسالبة اتّحدوا فصنعوا شرارةً تسّبح أنت في كهرباءها كجنِين، فتخرج من رحّم أُمك إلى حياةً مجهولةً أربابُها، فتسأل عن أصل بدايتها ونهايتها بعد أن كنتَ مرتاحاً في عالم الأثير، فتخطوا خطواتك بعيداً لتسأل بعدها إلى أين سيقودك القَدَر بعد موت جسدك هذا، أو أين كان القَدَرُ مسافراً بك قبل أن تُولد؟

فتدخل في لعبة البحث عن الذات كأنك طفلاً يلعبّ لعبة الغُمّيضة، لتختباً ذاتك في السماء وتظلّ أنت تبحث عنها في الأرض لسنينً طِوال. وما إن تسأل أحد البشر عن الحقيقة فيقول لكً ضاحكاً ولُعاب الجهلّ والتعصّب يخرجان من فمه: " يا أخي لا تتعب نفسك فلا ذاتً لك لتبحث عنها، ألمّ أقل لك انشغل في الغوص في بُركان عاداتنا وتقاليدنا المُقدّسة المُلتهبة بالحريق يا هذا!، هل أنتَ لستّ مِنّا؟ ما هذه الأفكار الغريبة؟ عدّ إلى صندوقك الصغير حيثما كنتَ ولا تبحث خارج الخُردة التي وضعناك فيها! ولا تنطق بكلمةً أخرى لا تناسب هوانا ومعتقداتنا التي سقاها أجدادنا وأكلّنا نحن ثمارها بدون تنظيف غُبارها أو الاكتراث لجوهرها الذي يختبأ وراء قشورها، أم نسيتَ أن الجهلاء أمّثالنا أكثر قوةً وعدداً من أمثالكم أيها الفلاسفة، هيا! عدّ قبل أن أرميك في بحر الظلام فلا ترى النور مجدداً فجميع الجهلاء يقفون في صفّي، ولا يتطلبّ الأمر كثيراً حتى أجعلهم يُعادوك بسهولة وبخطةً رديئةً وقديمة. فتكفي كلمةً واحدة أقول لهم فيها أن هذا الرجل يخالف ما أعدتم على فعله والأيمان به منذ قديم الزمان، وحينها سترى قسوةَ أنياب نفوسهم الحادّة التي لم تقرأ كتاباً ولم تكتُب نصاً ولم تتفلسف يوماً في حياتها، ولم تُمارس شيئاً غير تمّزيق لحوم من يُخالفها الأفكار والفِكّر ليس إلا".

 

أقول لكم يا إخوتي المُستمعين إنني لستُ شخصاً يحاول أن يحّظى بِسمّعةً أو أي شيء، وإنما أنا شخصاً قد تخلى عن كل شيء قد حظِيَ به ووضعه في زجاجةً ورماها في بطنّ البحر الهائج لترميه أمواجه إلى شاطئً بعيداً جداً في جزيرةً لا يسّكُنها حتى البشر".

 

فقال قائلاً من الجالسين في الحانة:

 

" من أنت يا هذا؟ فقولك بدء يُصّحيني من ثمّلتي وبدأّتُ في الشعور باشتهاء كأساً أخر!".

فقلتُ له بعد أن أخذّتُ الرشفةَ الأخيرةَ من كأّسي:

 

"أنا لستُ أي أحد، وأنتم لسّتُم أي أحدّ يا سُكّان هذه الحانة، أو يمكنني أن أقولها لكم بِلغتكم المعروف حتى تفهمونني بشكلً أكثر سهولة.

 

أنا وعّيً وروحاً لن تُشّتهر أقوالها إلا بعد رحيلها من جسدها التي سكنتّ فيه واستخدمتّ أصابعه للكتابة الروحية والأدبية. ولكن يُسّعِدُني أن أقول إنني أول حكيماً ينشر حِكّمته في حانةً يسّكُنها الثَمِلينّ والسُكارى وخصوصاً في ليلةً مظلمةً كهذه، فقد ظَلمَكُمّ المُجتمع قائلاً أنكمّ لا تنفعون في شيء غير السُكّر وقول الشعّر والأذب، وهذا صحيح.

 

 فأنتم لا تنفعون في شيء يعتقدون هُمّ أنه نافع خارج قاعتنا هذه التي تُنيرها الشموع، ولكنكم نافعون في شيء يجعل القلوب ترقص بلا خبراً مفرح، وهو نثّر الشعر والفصاحة، ورَكّنُ الكلمات في مكانها العظيم، وتستيف القلوب في صدور أصحابها، وإرواء دماء عروقهم بالحبّ المُقدسّ.

أمّا أنا فلا أعرف إلى أين أذهب، ولا أود أن اعرف صراحةً، فلا يوجد مكان لكي أذهب إليه، فأينما ذهبتُّ يتّبعُني جسدي من خلفي، فكيف أكون في مكاناً جديد وجسدي القديم يُلاحقني فيه.

 

فسكنتُ في داخل أحّشائي وتخيّلّتُ في رأسي مشهداً من طبيعة "كندا" التي لطالما أحببتُ رؤيتها بعيني، فظهرتّ أمامي بألوانها وشلاّلاتها وبصوت زقزقةِ عصافيرها وغيومها التي تُغطّي قمّة جبالها بالشكل الذي أُحبه تماماً. وأسمحوا لي أن أقول إنني أحبكم جميعاً يا أخوتي بكل جمالكم وبشاعتكم، فنحن أبرياءً لولا عقولنا التي تزوّجها الشيطانُ وأنجب منها الشر".

 

ثم حاولتُ إشعال سيجارةً وكان الجميع يُحدّق معي في رأس التبغ الذي أُحاول أن أُشّعله بالنار، وقد كان أغلب من في الحانةِ يحضنون بعضهم البعض ويبّكون بلا توقف، أما الأخرين فقد نزعوا السُلّمّ الذي يُنزِلّ الدموع على خدودهم واستبدلوه بالإفراط في الشُرّب، إلى أن سَقَطَتّ قطراتً من كأس النبيذ على ثيابهم بَذَلَ الدموع.

 

ثم قلت لهم بصوتً مُنخفض وأنا أُحدّق في الدُخان المُنبعث من فمي، منتظراً منه أن يتشكّل على شكل صورةً ما تُخبرني بما رأته من داخل أحشائي:

 

" لا شيء في الوجود حقيقي غير الحب الذي لا تراه أعيننا أيها الخيميائيون، فهو كالهواء الشفافّ ولولاه لما تمكنتّ أقدامنا من المشي ولما صَمَدتّ أجسادُنا طويلاً في هذه الحياة. الحب أيها السادة مشروطاً بالاستشعار ثم بالأخذ والعطاء. فالوردةُ تُشّعِرك بِلدّغ أشواكها قبل أن تقطِف من أوراقها وتُعطيك نفّحةً من رائحتها".

 

ثم توقفتُ لوهلةً عن الحديث، بعد أن خانتّني دموعي المُنهمرة من عيناي وسقطَتّ على نصوص الورقة التي أحّمِلها بين يداي فَمَسَحتّ جزءً منها بعد أن بلَلَتّها. 

 

ثم نظرتُ يساراً من النافدة الخشبية فاستشعرتُ نسيماً يعبُر منها، فعلِمتُ أن الفجر قد بدأ لتوه، والشمس قد تتسلق السماء في أي لحظة، وقلتُ للحاضرين بعد أن اكتفيتُ من البكاء والتحديق في النافدة:

 

" دعوني أرحلّ الأن كما رحل الليل، وأتمنى أن تُشرقوا كشروق الشمس القادمة بعد بضع سويعات".

 

فخرجتُ مسرعاً متجاهلاً صوت تصفيق الجالسين، وفتحتُ الباب راكضاً إلى الأمام وكان أمامي جسراً طويل. فخرج جميع الحاضرين ووقفوا أمام باب الحانة ينظرون إليّ ويصرخون بصوتً موحداً قائلين فيه:

 

" تعال وأكملّ لنا النصّ المُقدّس فقد شفيتَ قلوبنا وأزلّت الحُمّى عن أجسادنا، فقل لنا إلى أين أنت ذاهب؟ ".

 

فرفعتُ لهم دراعي اليُمنى وأنا أحدّق فيهم من بعيد، محاولاً تجاهل الضباب الذي يفّصل بيني وبينهم وقلتُ لهم:

 

" أنا ذاهب إلى بحر الحقيقة لأغّرَقَ فيه، فلا تنسوا أن تحتفظوا بِجُثتي عندما يقّدِفها الموج على رمال الشاطئ غداً. ".

 

 

الهاربة من المنزل

 

لا أعرف كيف أروي لكم حكايتي وأنا أركض هاربةً من أهلي ومنزلي لمكان لا أعرفه، ولكن سأعطيكم المُختصر المفيد عن هويّتي المسلُوبةُ حقوقها. أسمي هو "أنين". فقد اختارت لي أمي الظالمة هذا الاسم عن عمّد، حتى أظلُّ أُصّدُر الأنين كُلّما تصّرخُ في وجهي، أو كلّما تبّزقَ على كل ما يجعلني أشعر بالبهجة.

 

أمّا عمري فهو 26 عاماً من القهّر المُبين والظلم العظيم، فقد تفّرغ والدي لمراقبة عدّاد عمري مُحاولاً أن يُنهيه قبل أن يصلّ إلى الثلاثين، محاولاً التفنن في تعذيب نفسي حتى لا تنمو بطريقةً صحيةً وسليمة.

 

وها أنا الأن أركض في اليوم الأول من شهر يناير إلى الأمام والدموع تتساقط من عيناي إلى الخلف. وصوتُ أمي تنادي قائلةً من خلفي:

 

 " عودي أيتها الفاجرة! اللعنة على اليوم الذي خرجّتي فيه من رحمِي الأسود".

سمِعتُ صوتها الخشِن وأنا أركض، وناجيتُ الربّ أن يكون هذه المرةُ الأخيرة التي أستمع فيها إليه.

 

وثواني معدودة حتى صرختّ أمي مناديه أخي الكبير متسولةً شفقته، وقالت له بصوت بكاءً كاذب ممتلئ بالفتنة:

 

" أختُكَ هجرتّ البيت وتركتّ خلفها كلّ شيء بما في ذلك أنت، أذهبّ خلفها وأحضِرها من شعرها بسرعة. قبل أن تُصبح عِلكةً تُمّضغ بين أفواه أصدقائك، ويُشيرون إليك باسم المُخنّث الذي فلَتَتّ أُخته من قيّده".

 

نجحتّ أمي بإشعال شرارةً كهربائية بيني وبين أخي، فاشتعلَ أخي كأنه عبداً مأجور سُقِيتّ أحطابه المُشتعلة بنيران الرشّوةِ الزائفة.

 

وقلتُ وأنا أركض:

 

" إلهي الذي يحّكُم كل شيء بحكمته، أخي يتّبعني من خلفي بساقيه الرقيقتين كأنه ذئباً يتّبع فريسةً أضعفَ منه، فاجعلني كأنني أرنباً ينجحُ في الهرب من مسكنه القديم القابع تحت التُراب، ويفرّ إلى بيتاً كبيراً لا حُفراً ضيّقةً فيه فوق الأرض الواسعة، أو إلى ساحةً خضراء أرضها وخضراءً قلوب سُكّانها".

 

واستمريتُ في الركض، ولم يستطع أخي اللحاق بي.

ثم وضع يداه على رُكبتيه وعيناه تحدقّ في الأرض وتنفسه بدء بالتسارع الشديد. فقد ظهرتّ أعراض التدّخين الشَرِهّ على جسده في أول خمسةِ دقائق من الركض الغير متوقِفّ.

 

وحدّقتُ خلفي وأنا لا أزال أركض بقوة، فلمّ أرى شيئاً من الماضي، لا بيت أهلي، ولا صُراخ والدتي، ولا تهديد أخي الذي كان يتّبعني. فشعرتُ بسعادةً قصوة أنني نجوتُ من الهم والغم،

 

ولم تستمر سعادتي طويلاً حتى تصادم جسدي مع رجلاً في منتصف الشارع وسقطتُ على الأرض.

 

كان رجلاً كبير البطن، شعره ليس بالطويل، وعيناه السوداء توّحي بتهديدات غريبة، وشكلُ بِنطاله يعود لأحد العصور الكلاسيكية، وقال لي بعد أن أقترب رأسه من حُلمتِ أذني وأنا ساقِطةً على الأرض والهواء المُنبعث من فمه يلمس طبّلت أذني اليُسرى، وقال بصوتً مُنخفض:

 

" يبدوا أن تِلك الأفخاذ البيضاوية المُختبئة خلف التنورة لا تقّبل ثمناً أقل من مئةِ دولار، وأنا كفيلاً بإعطائهم هذا المبلغ بلا تردد، بل كفيلاً بي-------".

 

بزقتُ على وجهه قبل أن يُكمل حديثه، ولكمّتُه على أنفه قبل أن ينتبه أنني وقفتُ واستمريتُ في الركض.

 

وأنا أركض مررتُ بأحياء كثيرةِ لم أراها من قبل، فكانت والدتي تحّبسني في قفص مدينتي فقط ولمّ أرى إلى ما هو أبعد منها. وأحياناً تسّجِنوني في غرفتي فلا أرى إلاّ الجزء القليل من الحي الذي أقطن فيه. أمّا الأن فيمكنني أن أرى ما يختبئ في نهاية البحر الذي أمامي، وأفهم لغة الأحجار التي تلمسها أصابع قدماي، وأتواصل مع الهواء الذي يعّبر من ثقوب أنفي ذهاباً وإياباً.

 

لقد تعبّتُ من الركض وتوقّفتُ أمام أحد الحوانيت وقلبي تتسارع نبضاته، وحدّقتُ في الجالسين على مقاعدها جيداً منتظرةً من قلبي أن يهّدأ قليلاً.

فمِن خلال تعابير وجوه الجالسين في الحانة، أدركتُ أنهم لا يختلفون عنّي كثيراً. يهربون إلى الحانةِ عندما تصّفعهم رياح الأشرار فتطير بهم في عاصفتها عالياً ثم ترميهم في البراري بلا ثياب. فملامحهم توحي بجراحً قديمةً لمّ تلتئم، وعيونهم تحّكي قصةً لا يُمكن للعقل البشع فهم فحواها، وأذانهم تُصغي جيداً لموسيقي الجاز التي كانت بمثابةِ دواءً مؤقتً لهم.

 

وحدّقتُ أمامي فرأيت جبالاً خضّراء، لا يمكن رؤية نهايتها بسبب جلوس الغيوم على قِمّتها، أمّا جوانبها فكانت مُحاطةً بالأنهار الباردة، وتطير بين هِضابها الطيور النادرة، ويعمّ فيها سلاماً لم أرى شيء مثله، أو أرى شبيهاً له في حياتي. كأنها أرضاً صوفية تستقبل العشّاق فقط، أو كأنها جنةً تُنادي بمن هَوَتّ بهم قلوبهم إلى السرّ المُهيب، وربما هي الأن تنادي على المتمردين أمثالي وأنا لا أسمع صوت نِداها. المتمردين الذين أنكروا البشر والدنيا واختاروا طريقاً وعرة كالتي أمشي عليها أنا الأن بالتحديد.  

فأسرعتُ إلى قِمّتها مُحارِبةً الغيوم والضباب، متجاهلةً اضطرابات دورتي الشهرية ومزاجي المُتعكّر. فلا أود أن أعرف سبب شغفي للوصول إلى قِمتّها بقدر اهتمامي بالاستمتاع بتسلّقِها. 

 

فمرّتّ الساعات وأنا أكافح الرياح الباردة، حتى وصلّتُ إلى قِمّتها الواسعة.

 

كان الجو بارداً وصوفياً وروحياً بشكلً لا يُصدّق، أمّا عيناي فاختارتّ أن تُغّلق جفونها حتى يشّعر جسدي بالرياح التي تلّمسه بشكلً مباشر بدون أي حواجزً تمنعه، وكأن أعظمَ البدايات في الوجود قدّ بدأتّ من هُنا.

 

لم أستطع التعبير وسقطتُ أبكي بين ضباب الغيوم، وفي وهلةً اقتربتّ مني الضفادع وأعطتّني التحية بصوتها، فتعجبتُ وخفّتُ من المشهد وكأنني الفتاةُ "أليس" التي دخلتّ في بلاد العجائب. 

 

فقالتّ لي الضفادع بصوتً واحد:

 

" نحن أهّلك".

 

وقالتّ الطيور النادرة:

 

" ونحن أصدقاءك".

 

ثم قالتّ دِببة الهضاب:

 

" ونحن حُرّاسك"

 

 وفاض ماء النهر بشكلً مخيف وكأنه طوفان، حتى وصل مائه إلى نصف طول الجبال الشاهقة، وخرجتّ منه حيثاناً نادرةَ الشكّلِ، وقالوا وهُمّ يطيرون في الهواء:

 

" نحن أحبابكِ إذا ما غدرَ بكِ الزمن".

 

قالوا هذا وسقطوا مجدداً إلى بطن النهر، واختفى فيضانه وكأنه لم يكن.

 

ونزل طائر البوم من شجرة البلوط بعيونه العسلية وقال لي:

 

“أنا أنيّسُك في الليالي إذا ما احتجيتِ أنيساً".

 

استمعتُ لقول أصدقائي الجدد وهُمّ يحومون حولي، فكان مثل هذا النوع من الحب مفقوداً في بيت أهلي حيث يقّبع السُم الأبدي والسُحّت المُبين.

 

فذَرَفَتّ الدموع من عيناي وسقطَتّ على طين الجبال المُبللة، ولم يلبث جسدي طويلاً حتى تَبِع دموعي فسقط هو بدوره على الطين، ليشتكي له عمّا مرّ به من سوء ويئساً من جهة، ويُعبّر له عن الامتنان اتجاهه من الجهةِ الأخرى.

 

بعد بضع دقائق، سمِعتُ صوت خطواتً قادِمةً من بعيد، فشعرتُ بالخوف والقلق. ثم نظرتُ خلفي فرأيتُ أن صاحب الصوت نفسهُ قد وقف من خلفي كأنه تمثال.

 

كان رجلاً يرتدي ثوباً أحمراً طويلاً يصل إلى أصابع أقدامه، وأكتافه عريضةً ومشدودةً للخارج، بشرته تميل إلى الاسمرار، يقترب منّي بابتسامه لم أستطع فهم معناها، ولون عيناه الخضراء المُشعّ أفقدني تركيزي، أمّا قدومه نحوي بشكلً بطيء قد أثار ريبتي أكثر.

 

حينها قلتُ بصوتً عالي مُحاوِلةً حماية نفسي بسكينّ يقبع بين كفِّ يداي:

 

" من أنت؟ ماذا تفعل هنا؟". 

 

 

 (2)

 

خرجتُ لهذه الفتاة الضائعة من بين أغصان الجبال، ولكنها أستمرّت في الإلحاح بسؤالها مراراً وتكراراً بخوفً ورهبة،

قائلة لي:

 

" من أنت؟ وماذا تفعل هنا؟

 

فقلت لها:

 

" من الذي يجب أن يسأل الأخر عن سبب تواجده هنا؟ هل الضيف يسأل المُضيف عن سبب زيارته؟ أم المُضيف هو من يسأل الضيف عن أسباب زيارته؟

 

فهدأَتّ قليلاً وبَدأَت في التنفس ببطء محاولةً تخفيف أعراض الخوف الأنثوي الغريزي في جسدها، ولا أنكرّ أنها حاوَلتّ أن تُهدأ من أعراض دورتها الشهرية المُتفاقمة.

 

 

ثم قلتُ لها بعد أن رأيتُها بدأت تطمئن قليلاً:

 

" ما السبب الذي دفعَكِ لترك أهلك والقدوم لهذه الجبال؟

 

فقالتّ بصوتً ينوي الحرب والهجوم:

 

" ليس من شأنك، فهذا أمراً خاص يهمّني بيني وبين عائلتي؟

 

فقلتُ لها بعد أن حدّقتُ في العشب المتواجد على الأرض، وشعرتُ كأنني قد تلقيتُ إهانة:

 

" لو أن الأمر خاص بينك وبين عائلتك ويهمّك كما قلّتي!، فلِما تركتيهم هناك وأتيتِ إلى هنا؟ هل نترك من نحب لأننا نهتم بهم؟ أم أننا نتركهم لأننا لا نهتم بهم لسبباً ما. لأنهم لا يحترموننا لكوننا صادقين ولا نستخدم زيفهم الاجتماعي ربما.!".

 

فنظرتّ إليّ باستغراب وقالتّ بصوت يرتجف:

" كيف عرفت كل هذا عنّي وعن حياتي؟ أم أنه نادراً ما تصعد النساء لقمم الجبال، أقصد النساء اللواتي لم يذُقن من الألم ما تذوّقته أنا، فلعلّك بسبب هذا تنَبّأتَ بالصدفةِ بما مررتُ به؟".

 

فنظرتُ إليها جيداً محاولاً ألاّ أخبرها أنني أرى هالات البشر بوضوح الشمس، ثم قلت لها:

 

" لا أعلم، أنا ذاهباً الأن للتأمل في الجبال الأخرى، مع السلامة، والسلامةُ تُرافقك أينما وضعتِ أقدامكِ، وإذا ما احتجتِ شيئاً فيمكنك أن تسألي عني، أسمي نضال ".

 

فرحلتُ وتركتُها خلفي. ولكنّها ظلّت تتبعني متخفيةً خلف الأشجار بصمتّ كأنها جاسوسة. لم أقل لها شيء، لم أسألها أي سؤال، لم أقل لها لما تتبعيني، بل لم أُظهر لها أنني على درايةً بتجسُسِها خلفي، وإنما تركتُ أقدامها تُرشدها إلى حيثما تريد، كما تركتُ أقدامي تذهب بي إلى حيث ما تشاء في هذه اللحظة.

 

وصلتُ إلى أحد جوانب الجبل المجاورة العالية، وكان المشهد يطُلّ على نهراً يجري أسفل منّي في تتابع، وكنتُ أرى أمامي في أسفل الجبل حانةً بعيدةً أكاد أن اراها جيداً، ثم قلتُ منادياً بصوتً عالي متعمداً ذلك:

 

" لما لا تخرجي يا ... "أنين؟ وتُخبرينني عن تلك الحانة، فيبدوا أنكِ تعرفينها جيداً. ربما وقفتِ أمامها قبل أن تصعدي الجبل، وحدّقتي في الجالسين فيها فشعرتي أن همومهم تتشابه كثيراً مع همومك. أمّا أنا فلسّتُ إلاّ رجلاً يُخرج السِهام من صدور المغّدورين بِهم، ويخُيّط جروحهم جيداً حتى لا تُفَتح مجدداً عندما تتذكر النفسُ بعضاً من ماضيها الأليم، وتُقلبّ صفحاته التي ظنّتّ أنها قدّ حُرِقتّ بالنار وانتهتّ.

فاخرجي فلدي ما أقوله لكِ، يا..... أنين".

 

فخرجتّ أنين وهي تبّكي مُكتِفتً يداها على صدّرها، وشعرَتّ بأشياءً لا تستطيع شرحها، واقتربتً منّي أقدامها بعد أن خرجتّ من الزاوية التي كانت تختبأ خلف أوراق أشجارها.

ووقفتّ أمامي والدموع بدأت في السقوط من عيناها، وسقطتّ هي أيضاً على ركبتيها وانهالت بالبكاء، كأنها مُريدةً تبحث عن ذاتها، أو كامرأةً لا تعرف إلى أين سيقودها طريق الحياةِ العدمية.

فبدأت عيناها ذابلةً وكأن الدموع ستجفّ فيهما في أي لحظة، أما عقلها فلا يزال يتساءل عن طريق وجهته التي سيذهب إليها.

 

وقالت لي وهي تحترق في جوفها وقطرات الدموع تتساقط من عيناها:

 

" متى أعيش كفتاةً حرةً أبيّة لا تحّكمُها الشروط التقليدية المجتمعية. ألم يحنّ الوقت لتُسقطَ السماء نيراناً من غيومها، فتحّرِق كل ما تعلّمناه من الأجيال السابقة وأمنتّ به الأجيال اللاحقة! فأصبحتّ تِلك الضوابط المكبوتة شراً لا يُمكن تحمّله، ووحشاً لا يُمكن تدميره، بلّ سُمّاً فُرض علينا شُرّبه، وفُرض علينا أن نكذب ونقول إنه جميلاً وحلو المذاق".

 

فاقتربتُ منها ووضعتُ يدَها اليُسرى على قلبي، ووضعتُ إصبع سبّابتي على عينها الثالثة في جبّهتها الدافئة، مُحدقاً في الدموع وهي تسقط من عينيها المُغمضة.

وأغلقتُ عيناي لأرمي لها تعاليماً لا يأخذها إلا أتقياء القلوب، الذين أصابهم الظُلم فقالوا له تباً، وشعروا بالحزن فقالوا له ارحل، وكلّما أقتربَ منهم خوف الماضي أرعبوه بنيران الروح المُشتعلة، فيرحل من ذواتهم إلى الأبد ولا يعود مجدداً، فلا يبّقي في ذاتهم إلاّ الخوف الغريزي الذي يحاول أن يُبقيهم أحياءً بعيداً عن الخطر.

 

ففتحت أنين عيناه وقالت بصوتاً مُرتجفاً وعالي:

 

" لقد رأيت عوالم لم أراها من قبل! رأيت نفسي أطير فوق الجبال بينما جسدي مرمي على الأرض.

رأيتُ نجوم السماء تُحلّق في كيمياء روحي إن جاز التعبير. شعرتُ أنني لستُ الجسد ولا العقل! شعرتُ بالكثير من -------".

 

حاولت إيقافها عن الحديث قائلاً لها:

 

" هل تشربين القهوة بدون سُكَّر، فلم يتبقى عندي إلاّ مُكعباً واحد".

 

فقالت والماضي قد أختلط مع حاضِرِها، وعيناها يوحيان بشيءً ما:

" لا أشعر أن القهوة ستُروي عطش روحي، هل لديكَ شيئاً أقوى مفعولاً منها".

 

 فقلتُ لها بعد أن قرأتُ ما ترغب به بعد أن حدّقتُ ملياً في عيناها:

 

" هذه زجاجة عنباً مُتخمّرة منذ أكثر من خمسينِ عام، وقد يبقى مفعولها يسري في عروق جسدك لأكثر من أربعةِ أيام".

 

 ثم قلتُ لها مازحاً:

 

" لا يشرب منها المظلوم إلا وأصبح ظالماً، ولا يشرب منها الظالم وإلا أصبح مظلوماً".

 

فابتسمتّ ابتسامة جذّابة وقالتّ لي:

 

" لا تقلق حول هذا، ولكن أتمنى ألا تقع أنت مظلوماً بين يداي".

 

فابتسمتُ لمُزّحتها رغم أنني لم أفهم ما كانت ترمي إليه، ولكنني خاطبتُ نفسي قائلاً:

 

" كانت هذه أول مرةً أرى ابتسامة أنين منذ لقاءنا الأول. وجهها يشبه القمر المُكتمل، عينان واسعتين وحادّتين ملونتان بالأزرق البحري، جسدها رياضي يُغوي الشياطين والبشر جمّعاء على حداً سواء، عيناها وهي تضحكّ تشبه الهلال المضيء في السماء، وتضع يداها على شفاهها كلّما أكثرتّ من الضحك. وترتدي بِنطالاً أسوداً يُظهر مفاتِنها الجذّابة، وأيضاً من الأعلى ترتدي قميصاً أبيضاً كبياض جلّدها الرطب، وكانتّ دائماً ما تحاول رمّي شعرها للوراء كلّما دفعتّه الرياح على أكتافها".

 

فقدّمتُ لها كأس النبيذ فأخذته بعد أن شكرَتّني في سِرّها، وشرِبتّ مُحتوى الكأس في رشفةً واحدة، وكأنها تُحاول إزالة خجلها وكبريائها بأسرع وقتً ممكن، لتُخبرني بأسرارً تخاف البوح بها في حالةً غير حالة السُكّرّ. 

 

ثم مَسحتّ بقايا احمرار النبيذ المُتبقي على شفاهها الوردية، وطلبتّ مني كأساً أخر. فأعطيتها كأسي ثم قلت لها بصوتً مُنخفض:

 

" إذا لم تشّربيه بلباقة، فإنه سيكون كأسكِ الأخير".

 

ولكنها لم تكثرت لكلامي فكان مصير الكأس كمصير أخوه الذي كان قبّله. ثم حدّقت فيّ وقالتّ والدموع بدأت في خيانتها من جديد:

 

" أريد أن أُخبرك بقصّتي الغريبة. إنها تُشبه روايةً عَجَنها أحد الكُتّابِ في مُخيّلته، وقَصّهَا على الناس فلم يُصدّقها أحداً غيره".

 

فقلت لها بعد وضعتُ السيجارة في فمي وأحرقتُ رأسه بالنار:

 

" أخبريني، فإن أُذني حجزتّ موعداً معكِ أنتِ فقط، ولن تستمع لصوتً غير صوتك".

 

فمسكّتُ بيداها واخذتُها إلى حافة الجبل حيث تكّمن الهاوية أسفل أقدامنا، ولا تبتعدّ عنّا حافة الجبل إلا ببضع أقدام. وجلس كلانا في صمتً مُطلق نراقب الشمس.

 

فقالت لي بعد أن أشعلتّ سيجارة رقيقة وحدَّقتّ في الدخان المُنبعثِ منها:

 

" أنا فتاةً قسى عليها الزمن وجَلَدَها بالسوط حتى خرج الدمّ والقيح من لحّمِها. ودُفِنتُ تحت أرضاً لا تأكل أجساد الموتى فتريحهم من شرور الحياة، بلّ أرضاً تُحافظ على الجُثث حيةَ لتتلدد بتعذيبهم حتى وهم موتى.

لقد تركتُ أهلي وركضّتُ أتجاه الموت بأقدامي، ولا أنكرّ أن صوت والدتي القاسية لا يزول يصرخ في رأسي وهي تقول لي " يا فاجرة " يا عديمة القيمة " أنتِ لعنةً تسكن في جسد" " ياليتني انجبتكِ رجلاً".

 

ثم صمتتّ أنين لبضع ثواني، فشعرتُ أنها تُحارب تساقط دموعها وتتصارع مع نفسها. ولكنها لم تصمُد كثيراً وخسرت المعركة، وانفجرتّ بكاءً وهي تُحدقّ في غروب الشمس وتشتكي للسماء طالبتاً منها أن تُسقط أمطاراً باردة على نيران روحِها المُلتهبة.

 

وقلتُ بيني وبين نفسي:

 

" يجب أن أحضُنها لتشعر بحنان أمها الذي لم تشعر به من قبل، ولكنني تراجعتُ عن الفكرة وفضّلتُ أن ألتزم بالصمت وحسب".

 

مرّت عشرة دقائق، وبدأت أنين في الشعور بالهدوء قليلاً، فقدمّتُ لها كأس نبيذاً أخر ولكنها رفضته وقالت:

 

" أريد شيئاً أكثر قوةً منه، أريد شيئاً يفتِك بالماضي الذي يُرافقني، أريد شيئاً يجعلني أرقص كالراقصات اللواتي لا يحملّن هموماً على أكتافهن، ولا شيئاً يُثقل أجسادهن غير قطعة القُماش المربوطةِ على خُصرهن فتساعدهم على هزّه بقوة".

 

 

 

قلتُ لها:

 

" لم أفهم قصدك؟".

 

فأشارت بعينيها إلا زجاجة الويسّكي وقالت:

 

" أعطني هذه الزجاجة، سأشرب منها بدون أن أسكب محتواها في الكأس. فلم أعد أشتهي الحياة البرجوازية التي كنتُ أعيشها، فقد بدأت أعتاد على عيش الغابات والجِبال".

 

شعرتُ وكأنها تُهينني عن غير قصد، ولكنني تغاضيتُ عن ذلك وقدّرتُ ما تمرّ به من طريقاً وعرة.

 

ثم قلّتُ لها متسائلاً:

 

" ماذا تقصدين عندما قلتي حياةً برجوازية؟".

 

 

 

فقالت بعد أن أشعلتّ سيجارةً أخرى:

 

" نعم! حياةً برجوازية. فوالدي رجلاً ثري جداً، أما روحه كأنها بيتً مهجور مسكون بالضِباع والأفاعي. ولكنه يستخدم الروحانيةَ جيداً عندما يتعلق الأمر بمصلحته الشخصية، فيتحوّل إلى شاعراً رقيق القلب مُرهف المشاعر. فيترك جميع الحاضرين منشغلين في تأثرهم بقوله، فيحصلّ منهم على ما يريد الحصول عليه بعد أن نوّمهم مغناطيسياً، ثم يرحل ويتركهم منشغلين ببكائهم ومتخدّرين بمُخدّرات أكاذيبه. ولكن هذا لا يهمّني! ما يهمّني أنه لا يختلف عن والدتي كثيراً، فكلاهما درسوا في نفس المدرسة الخبيثة، وكلما------".

 

فقاطعتُها وقلت لها:

 

" ولكن ربما؟-----".

 

فقالت بغضب:

 

" أششش، لا تُقاطعني عندما أتحدث"

 

فلزمتُ الصمت وربطّتُ لساني في فمي وعدّتُ مستمعاً مجدداً.

 

فقالت بعد أن أخذَتّ رشّفةً كبيرة من الكحول:

 

" أمّا أخي فلا يختلف عن كلاب الحراسة. فكلما تُشير والدتي بإصبعها عليّ، يهجَم عليّ ويعظّ كل جزءً من جسدي حتى يسيل الدمّ من جلّدي. ويُقطّع بأصابعه شَعّري متجاهلاً أنه الجمال الوحيد الذي تَبَقّي منّي صالحاً لأتفاخر به.

أه... نسيتُ أن أُخبرك! أنّ أخي الذي أعتاد على ضربي، هو نفسه الذي حاول اغتصابي أكثر من مرة".

 

فبزقّتُ النبيذ من فمي وسقطتّ قطراته من هاوية الجبل، وقلتُ لها مذهولاً:

 

" هل حاول فعلاً؟".

 

فقالت بصوتً به الحسرة، بعدَ أن أطفأت سيجارتها وأشعلَتّ سيجارةً أُخرى:

" نعم حاوَلّ. بل حاولاً كثيراً، ولكنه لم ينجح في أي مرة".

 

ثم قلتُ لها وأنا أحدّق في الشمس التي اقتربتّ من الغروب:

 

" هل تعتقدين أن هروبكِ من المنزل خطةً صائبة، أعني أنكِ أنتِ الأن لوحدك تتجولين في الشوارع، فربما تتعرضين إلى ------".

 

فقاطعتّني قائلةً بصوتاً عالي بعد أن وقَفتّ على أقدامها وامتلأت عيناها بالدموع وظهر الغضب من حُنجرتها على هيئة صوت:

 

" أتعرّض لماذا! قل لي! هل سوف تُريني الحياة في الشوارع نيراناً ملتهبة أكثر من تلك النيران التي رأيتُها مُشتعلةً في منزلي. كنتُ أعيش كالعبدة في منزلهم، لا يعطونني دولاراً واحداً إلاّ بعد أن يُسمعونني اللعن والشتم كضريبةً لصدقَتِهم، بل لا أصرف حتى صَدَقتهم لأنني مُعظم الوقت مسجونةً في غرفتي. لا أخرج منها إلاّ لطبخ الطعام أو غسل الأواني، وأحياناً أخرج منها هرباً إذا ما دخلَ لها أخي محاولً اغتصابي".

 

ثم نظرتّ إليّ بغضبّ وقالتّ بصوتً مُرتفع:

 

" حتى أنتَ لا تشعر بي، مثلك مثلهم، ترميني بتلك النصائح الرخيصة"

 

ثُمّ حدّقتّ فيّ بسرعةً فائقة من أعلى رأسي إلى أسفل أقدامي، ثم صعوداً من أسفل أقدامي إلى أعلى رأسي، وكأن عيناها ماسحاً ضوئياً يحللّ شيئاً ما.

 

وبعدها رَحَلَتّ راكضةً والدموع تسقط من أعينها.

فنهضّتُّ مُسرعاً محاولاً اللحاق بها عسى أن أُراضيها بكلمةً ما. ولكنها كانت تجري بشكل سريعاً جداً رغم أنها أفرطتّ في الكحول.

فشعرتُ كأنني ألعب دور أخاها الذي قالتّ لي عنه أنه كان يُلاحقها، فبماذا أختلف عنه أنا الأن يا تُرى؟

 

رفعتُ صوتي بعد أن رأيتها قد وصلتّ إلى نهاية الجبل بالأسفل، والسيارات كانت تتحرك بسرعةً حول الطريق السريع من أمامها، فخشيتُ ألا تنتبه للطريق وتتبع مشاعرها فتدهسُها سيارةً وترحل عن العالم بدون أن تقول لي وداعاً.   

 

ولكنها أستمرتّ في الركض ووقفت في منتصف الطريق، ووضعت يداها على فمها وكانتّ مذهولة بسبب رؤيتها لشيء لا أعرفه.

وكانت السيارات تتجنبّ الارتطام بها بشكل أعجازي. أمّا أنا فشعرتُ بسعادةً غامرة لأنني اقتربت من الوصول إليها ولم تدّهسها أي سيارةً بعد.

 

رويداً رويداً ارتطمتُ بها من الخلف وأمسكتُ بها جيداً وسقط كلانا على رصيف الطريق الذي يفصل بين السيارات القادمة شمالاً، والذاهبة يميناً.

ثم نظرتُ إليها وأنا مُنبطحاً فوقها وقلتُ لها:

 

" أيتها المجنونة! هل الألم الذي يكّوي أجسادنا، يستحق أن يجعلنا غير حُكماء في خطواتنا".

ولكنها لم تُجبني، ويداها لا تزال على فمِها، وعيناها مفتوحةً بشكل غريب، وجسدها يرتعش رعباً، وكأنها لا تزال مذهولةً من الشيء الذي رأته ولم أعرفه بعد.

 

فقلت لها:

 

" ما بكِ؟، هل رأيتِ شيئاً ما؟

 

فقالت لي بصوت يرتجف رعباً:

 

" أنظ ... أنظ....أنظر خلفك؟"

 

فنظرتي خلفي فوجدتُ لكّمةً كانت تنتظرني بشوق. فأسقطتني أرضاً على الفور.

ثم حاولتُّ النهوض مرةً أخُرى فتلقيتُ لكمات أقوى من اللكمةِ الأولى من حُراساً يرتدون ثياباً سوداء مخيفة.

فسقطتُ كلياً على الأرض مجدداً وأشتّم أنفي رائحة التراب، وتذوق لساني طعم الدمّ المُنبعث من شفتاي الجريحة.

كان نُصفي واعي ونصفي الأخر لاواعي، ثم سمِعت صوت أنين وهي تصرخ قائلةً:

 

" أتركني وشأني، أنا لستُ ابنتك! دعّني أرحل حيثما يريدني القدر أن أذهب".

 

فعلِمتُ أن الذي تصرخ عليه أنين هو والدها. وأصحاب السُتّرةِ السوداء لم يكونوا إلاّ حُرّاسة. ولون ثيابهم مثل لون قلوبهم.

 

لا أستطع أن أصف المشهد الذي أراه، أنين تصرخ بين أيادي والدها.

ولم يلبثّ صراخها طويلاً، فقد صمتتّ عن الصراخ بعد أن أعطاها صفعةً قاسية، كتلكَ التي تلقّيتُها أنا قبلها. ورماها في المقعد الخلفي، بالتحديد في سيارته الفاخرة.

 

كانت من نوع مرسيديس بانز طويلة، سوداء اللون، نوافذها المُظلمة تمنعك عن رؤية من فيها.  

أمّا والدها فكانت بطنه مُنتفخة من شرب البيرة.

كان قصير القامةِ أبيض الوجه، له شاربً أسود اللون وخشن الملمسّ، تفوح من بِدّلته رائحة دولارات مسروقةً من أصحابها.

 

ثم حاولت النهوض للمرة الثالثة وذهبتُ مُسرعاً وفتحّتُ باب السيارةِ الخلفي لأنقذ أنين.

وبمجرد أن فتحتُ الباب شممتُ عِطر " بلو شانيل " من نوعاً رفيع.

وبمجرد أن لمَستّ يداي أيادي أنين لأسحبها ونهرب!، كان والدها قد أمسك بظهري ودفعني إلى الخلف. ثم أكمل باقي الحراس تكسير ما تبقى صالحاً من عظام جسدي.

 

وهنا ظللتُ ساقطاً على الأرض أراقب هزيمتي. وصعد الجميع في سيارةِ والد أنين المخيفة. ولمّ يحتاج أياً من الحراس أن يجلس في مكان السياقة والإمساك بمِقود القيادة ليحُرك السيارة.

فقد كانت فقط كلمةً من لسان والد أنين قالها بعد أن أخرج دُخان السيجار الكبير من فمه، عندما اقترب من مُسجّل السيارة وقال لها بصوتً غليط:

 

" اذهبِ بنا إلى المنزل".

فقالت له المرسيديس بصوت أنثى لطيف:

 

" أمرك سيدي".

 

فسياراته لم تكن تختلف عن حُرّاسه، فجميعهم مثل كلاب البيتبول، لا يتحركون إلاّ بالأوامر، ولا يهجمون إلاّ إذا طلب منهم سيّدهم ذلك.

 

ثم رحلوا من أمامي وأنا لا أزال مطروحاً على الأرض.

حاولتُ أن أحدّق فيهم ولكن دخان سيارتهم دخل في حلقي وعيناي. ثم حاولتُ الوقوف بعدها لأتفحص عدد الضربات التي تلقّاها جسدي. 

 

مرّت الأيام ولم تُلاقيني الصُدف بأنين مجدداً. ولكنني أصررتُ جاهداً البحث عنها. وكأنني أعيش في دراما، أو كأنها نصاً أدبي أو رواية. ولكن لم أفقد الأمل.

 

وفي يوماً من الأيام ذهبتُ لرؤية صديق لي، وكنتُ أجلس في مقعد سيارة الأجرة أحدّق في الأشجار وهي تتحرك، وقلت بيني وبين نفسي:

 

"هل نحن الذي نتحرك في السيارة؟ أم الأشجار هي التي تتحرك؟".

 

وأنا أطرح السؤال على نفسي وأحدّق في الخارج، رأيتُ الحُراس دوي الثياب السوداء.

 

فقلتُ لسائق الأجرة توقف هنا، فقال لي السائق بصوتً شاحبّ:

 

" أربع دولارات".

 

فأعطيته كلً ما أملك وذهبتُ إلى أصحاب الثياب السوداء، فمكانهم مقروناً بمكان أنين.

 

ولكن عندما وصلتُ إليهم وجدّتُ خِيمةَ عزاء، وكان الجميع يبّكي باستثناء والدةُ أنين، وسمعتُ قائلاً يقول:

" لقد كانت فتاةً بريئة، لقد كانت صديقةً مُقربةً لأبنتي، لم نكن نتوقع أنها ستنتحر يوماً ما".

 

أصابتنّي الدهشة والذهول، وقلتُ للحاضرين:

 

" من المُتوفي".

 

فقال لي أحدهم:

 

" فتاةً اسمها أنين، وجدوها أهلها مُعلّقةً على حبل المشنقة، وأقدامها تتذلل إلى الأسفل".

 

سقطتّ الدموع من عيني، وارتعش جسدي، أما قلبي لم يُصدق ما سمِع، فكدتُ أفقد الوعي، أمّا معدتي فقد أصابها اضطراب، فتقيأتُ وأنا أبكي.

 

اقتربتُ من الخيمةِ أكثر والدموع لا تزال تتساقط من عيناي.

وكانت والدة أنين ترقص كالشيطانة حول النيران.

أمّا والدها فكان مشغولاً بعقد الصفقات.

أمّا أخوها فكان يتظاهر بالبكاء حتى لا يُحدث شكاً أو ريبة.

أمّا أنا فحاولتُ أن أتجنب النظر إلى والدها، بل كنت أتمنى منه ألا يراني.

 

فاستغليّتُ الفرصة عندما كان والديها وأخوها مشغولين في الخيمة، فتسللّتُ إلى بيتهم وبالتحديد إلى غرفتها.

 

أخذ مني البحث عن غرفتها وقتً طويلاً، فكان بيتهم كبيراً جداً، ولكن تسكنه غمامةً سوداء. وكانت أنين هي ضحية هذه الغمامة.

 

وبشقّ الأنفس وصلتُ إلى غرفتها بعد أن تأكدتُ أنني بمفردي هناك.

 

كانت غرفتها صغيرة، مختلفة عن أحجام غرف المنزل، كانت تشبه الكهف. ومطليّةً باللون الرمادي الغامق الكئيب، ناهيك عنّ أنها لا تحتوي على نوافذ ولا أثاث، ولا تطلّ عليها الشمس من أي جانب.

وحبّل المُشنقة لا يزال مُعلّقاً في فتّاحة باب الغرفة الحديدي الطويل، حيث تركتّ أنين جسدها ورحلَتّ.

 

ثم شعرتُ بشيء بداخلي يُخبرني أن أبحث في غرفتها عن شيء يُذكرني بها. فقلت بيني وبين نفسي:

 

" دائماً ما كانت تُخبرني أنها تُخبأ ما تحب أسفل سريرها".

 

فقمت بنزع فراشها فوجدّتُ مُذّكرةً مكتوبً عليها:

 

" مذكراتي الخاصة".

 

فأخذتُ المذكرة وخرجتُ مُسرعاً من هناك حتى لا يجدني أحدهم متسللاً. ثم جلسّتُ بعيداً قليلاً عن الخيمة، أقرأ أخر ما كتبته في مُذكراتها، بالتحديد قبل موعد الانتحار.

 

وكانت أنين تقول في المذكرة:

 

" التقيت برجلاً في الجبال، لم أرى مثله مثيل. لا أستطيع وصف طيبته وصدّقه".

 

توقفتُ هنا عن القراءة، وأشعلتُ سيجارتي بعد أن حاولتُ حبّس دموعي من السقوط، ثم أكملتُ باقي النصّ وكان يقول:

 

" كنتُ جالسةً معه لفترةً قصيرةً جداً، وتمنّيتُ أن أجلس معه أطولّ، لولا قدوم والدي وحُرّاسه الذين أخذوني، ثم ضربوه ضرباً مُبرحاً ولم يكُن باستطاعتي مساعدته، فساعدتّه بالبكاء على نفسي حسرةً وندماً لما جرى له بسببي.

وها أنا سأنتحر الأن وسأترك هذا العالم، فوالدي هددّني بتعذيبي إلى أخر العمر، وأمّي قدّ أعدّت لي قائمةً بها الأعمال الشّاقة.

أمّا أخي فكان يخاطبني بعينيه التي كانت تقول في صمّت ظلامها: " ستقعين بين أحضاني، وسوف أغتصبك بيدي، ولن يسمع صراخكِ أحداً غيري".

فقررتُ الانتحار قبل أن تتراكم على رأسي مالا يستطيع أقوى الرجال على تحمّله.

وداعاً أيها العالم، وداعاً عزيزي نضال، وداعاً يا حافة الجبل فقد استمتعتُ بالجلوس على قِمّتك ".

أغلقّتُ المذكرة وعيناي تذرف بالدموع، شعرتُ بقوةً روحيةً بداخلي تطلب مني فعل شيئاً ما. فوقفتُ ومسحتُ الدموع بأكمام سُتّرتي، وظهر الغضب في عيناي، وذهبتُ قاصداً الخيّمة، وبالتحديد قاصداً والد أنين المُتعجرف. كان نوراً مختلطاً بالغضب يشعّ بقوةً من بؤبؤ عيناي، وكانتّ حمّراء لسبب لا أعرفه. حتى ظن أحد الأشخاص المارّةً أنني من أحد ألهةِ الدمار الأسطورية.

 

وصلّتُ إلى الخيمة ووقفتُ في منتصفها، وحدّقتُ بعيوني الغاضبة الحمّراء في عيون والد أنين، فنظر إليّ بنظرةً مشابهةً لنظّرتي، ولكنني رأيتُ فيهما الخوف.

كانتّ عيناه تحاول أن تتجاهلني، حتّى حُرّاسه كانوا كالتماثيل الجامدة لا حركةً فيهم.

 

ثم قلتُ بصوتً عالي وأنا أقف في منتصف خيمةِ العزاء:

 

" يا قوم، هل ترون ذلك الشيطان الذي تقمّص جسد إنسان".

 

وأشرّتُ بإصبعي إلى والد أنين.

ثم أكملتُ حديثي قائلاً:

 

" ذلك الرجل هو السبب في انتحار أنين".

 

عندها ظهرتّ الغوغاء في المكان، وبدأ الجميع في التساؤل.

أمّا والد أنين فقد كان في جحيماً وغضبً داخلي، كان يعضّ ضروس أسنانه، حتّى سمِعتهم يتكسرون واحدةً تلّوى الأخرى.

 

ثم قلت لهم:

 

" أنا أحمل بين يداي دفتراً من يوميات أنين، وبه كل المُعاناة التي مرّتّ بها في حياتها. ولمّ تكنّ مُعاناتها نابعةً من خارج المنزل، بل ممن كانوا يسكنون معها ويُشاركونها الطعام، أو بالأحرى، كانوا يرمون لها الطعام في غرفتها. فإنني أخبركم أن------".

 

أوقفني والد أنين عن الحديث، وقال بتعجرف:

" ليس لك علاقةً بنا، أنا والدها فلي الحق بتعذيبها أو تذليلها كما أشاء".

 ثم أشار بأصبعه طالباً من حُراسه أن يفتكوا بي فتكاً هذه المرة.

 

فاستسلمتُ لهم وفتحتُ يداي على طولها قائلاً:

 

" ضعوني في الصليب وافعلوا بي ما تشاؤوا، فقد قلتُ الحقيقة بشجاعة، ولم أعدّ أخاف من مصيري، خصوصاً إنّ كان مصيري سيُلّحقني بأنين".

 

فاقترب مني الحراس ورفعوا يداهم لضربي.

 

 ثم فجأةً سمعتُ صوتً من خلفي يقول:

 

"توقفوا".

 

فنظرتُ خلفي مسرعاً.

كان المُتحدث رجلاً شهّماً طويل القامة، يرتدي قُبّعةً دبلوماسية، وله شارباً طويل، ونادراً ما يبتسم في مثل هذه المواقف. وخلفه حُراساً أكثر قوةً من حُراس والد أنين. ثم قال لي:

 

" أسمي فيصل، أنا مُفتش، أو يمكنك أن تعتبرني مُحققاً".

 

ثم وضع يداه على شعر رأسي وحرّك يداه أماماً وخلفه وكأنه يُلاطف قطة، ثم قال لي:

 

" تنحّي يا بني جانبً! فأنا أعرف القصة بأكملها، لقد تحدثت معنا أنين قبل أن تنتحر، وروتّ لنا قصة معاناتها بأكملها. ويبدوا أنك أنت بطل القصة! ألست أنت الرجل الذي التقت معه أنين في قمة الجبل؟ 

 

نظرتُ له كأنني طفل وقلتُ له:

 

" نعم يا سيدي، هذا صحيح".

 

فقال لي وهو يُحدّق في والد أنين بغضب:

 

" أرجوك دعنّي أتولى الأمر، فمثل هؤلاء يحتاجون من يفهم ألاعيبهم جيداً".

 

فنظرتُ أمامي إلى والد أنين وحُرّاسة، فظهروا وكأنهم حشرات يمكنني أن أدّعس عليهم بسهولة، بل يُمكنني أن أرشّهم مبيداً حشري فيختنِقوا، كما اختنقتّ أنين ولا أحد يدّري عن قصّتها إلاّ أنا والمُحقق.

 

ثم قال المُحقق إلى والد أنين:

 

" أتيتُ بأخبار ليستّ بالجيدة، خصوصاً في يوماً ليس جيداً كهذا".

 

ثم حدّق المُحقق في عيون والد أنين وكأنه محللاً نفسي وقال له:

 

" رغم أنني أعرف أنك لم تهتم لوفاة ابنتك، بل لم تهتم بها أصلاً حتى عندما كانتّ حية".

 

ثم أخرج المُحقق ورقةً من حقيبته الدبلوماسية، ووضع اصبعه على الجزء الأمامي من لسانه ليُبللّ أصبعه جيداً باللُعاب، قبل أن يبدأ في تقليب الأوراق، وقال بصوتً عالي يسمعه الأنس والجن:

 

" إلى المُتهم المعّني، الذي تسببّ في انتحار ابنته ظلماً وقهراً"

 

ثم أوقفه والد أنين قائلاً:

 

" ولكن يا سيدي----".

 

قال له المُحقق وهو يحدّق في عينيه بغضب:

 

" أنا لم أنتهي بعد".

 

ثم أكمل المحقق قوله قائلاً:

 

" لم يكنّ المعني سبباً في انتحار أبنته وحسب، بل كان سارقاً ينهش في جيوب غيره، ناهيك عن الديون التي يحّمِلها بين أكتافه العريضة، وقد انتهت مُهلة تسديد الديون، فالمعنّي متهماً بقضايا كثيرةً أخرى، والتي سوف نناقش تفاصيلها الدقيقة في مركز الشرطة".

 

ثم رفع المحقق يداه إلى الأمام، وطلب من الجنود أن يقيّدوا أيادي والد أنين جيداً.

فقيدوه ومشوا به ومشى الشرّ من خلفه.

وكان يمّشي ورأسه ينظر إلى الأرض ويتساءل عن ألوان المصائب التي تنتظره.

 

فاقتربتُ من رأس والد أنين وهو مقيداً بالسلاسل، وقلتُ له هامساً في أذنه بصوتً مُنخفض:

 

" ليس السجن موطِنكَ يا هذا، بل القبر مسّكنك. أعدك أنني سأنتظر خروجك من السجن على أحرّ من الجمّر، وحينها سأدفِنك بيدي".

 

ثم غمِزّتُ المحقق وقلت له:

 

" لا أعني حقاً ما قلته له، ولكن أردّت أن أجعله يشعر بالخوف من التهديد كما هدد أبنته مراراً وتكراراً".

 

ثم وقفتُ جانباً أشاهد والد أنين يدخل سيارة الشرطة ووجه بدء يميل للاصفرار، وجسده بدأ يهّزُل قبل أن يتضور جوعاً في السجن.

 

فرحل بعدها المحقق حاملاً الشر بعيداً.

 

أمّا أنا فقد عُدّتُ إلى قمة الجبل أتحدث مع السماء قائلاً لها:

 

" هل سيكون هناك حقاً مُحققاً أسمه فيصل يهّتمُ بقضايا اعتداء الوالدين على الأبناء. فقد علّمونا كيف نُرضي والدينا، ولمّ يُعلموا والدينا كيف يُرضوا أبنائهم. ولكن سأتفاءل بظهور المحقق نبيل يوماً ما، بشاربه الأسود الطويل، وبشهامته الفذة، ويُنقد الأبناء من والديهم، ويزرع الورود في الأرض، وينزع الأشواك القديمة، ويبذلها بأوراق الياسمين الفوّاحة.".

 

 

 

 

 

 

 

 

الهجرة إلى بيتً خشبي في الخلاء

 

كم هو مؤلم ذلك الجُرح الذي يتركه الأدب الروحي على جُلود الأجساد الحسّاسة، وكُم هو مُنعِش ذلك الكحول الذي يداويه في صمتً من تحت الضِماد. فلن أُخفي عليكم سِرّي في جيبي بل سأضعه في كف يدي ليراه الجميع. رغمّ تيقُّني جازماً أن جُعبتَ نفسي فارغة من الأسرار التافهة. فذاتي قدّ أفرغتّ نفسي قبل أن تضع في صندوق كنّزِها سر الوجود المُقدّس.

 

فدعني أقول لك أين أنا، لكي تُوجّه أُذنيك إلى المصّدر الذي سينبعث منه صوتي.

 

أنا في بيتً خشبيً صغير لا يُمكن رؤيته بسهولة، فتكاثفّ أوراق الأشجار التي حوله تُخفي تعابير شكّله، فلا يظّهر منه إلاّ الباب الرئيسي ونافدةَ المطبخ.

أمّا أرضِيته الخشبية فإنها تُصّدر صوتً يُشبه الأنين كلّما خطوتُ خطوةً عليها. وغالباً ما يَعبُر الهواء من بين فتحات النوافذ فَيُصّدر صوت صفيراً غريب وكأنه زفيراً عميقاً لأحد الوحوش.

وكلّما جلستُ في سطحه ليلاً وجدّتُ النجوم تُراقبني من السماء، فتظهر لي أشكال الكواكب واضحةً وجلية.

فأرّوي عيناي بالتحديق فيهم، وأترك أذني تنّشغل بصوت الماء الساقط من الشلالات القريبةِ منّي.

 

وأذكّركم أن مسّكني هذا يتواجد في طبيعةً لا يسّكُنها أحداً غيري. فلمّ تبّلغ البشريةُ ما يكفي من الفردانيةِ لتُغّنيهم عن الأُنّسةِ ببعضهم ليرحلوا فُراداً تاركين هذا العالم بشرفً وعزّة.  

 

ففي يوماً من الأيام أخذني النوم في أحد الليالي هنا بدون أن أشعر بقدومه، وبعد بضع سويعاتً رنّ جرس المُنبه صائحاً فأغلقتُ صياحه بالكبّس على الزر الذي فوق رأسه البلاستيكي. وفتحّتُ جفونَ عيناي النائمة بأصابعي بعد أن كانتّ تُحدّق في الظلام طوال الليل.

ثم أشعلتُ الشمعة التي بجانب سريري وحدّقتُ في أسهُم الساعةِ جيداً. فكان السهمُ القصير متوجهاً على رقم ثلاثة، والسهّم الطويل يقف باستقامته على الرقم سته.

نظرتُ من نافذة غرفتي وأنا جالساً كالصنّم فوق سريري. كان الجو مُظلماً ساكناً ولا حركةً صغيرة تحدث فيه بدون علمه. أمّا الرياح فلم أشعر أنها كانت تجّري في الشوارع، فيبدوا أنها أرادت أن تذهب بعيداً عني لتتركني أتساؤل عن سبب غيابها. مثلها مثل حبيبتي التي رحلتّ من بين أحضان أذرعي العريضة، وتركتّ نصف سريري الأيمن فارغ بعد أن كان مكانها المُفضّل للنوم.

فأقسمّتُ ألاّ أغسِل غِلاف وسادتها حتّى لا تزول منه رائحتها.

ثم أعّصِر وسادتها بدراعي اليُمني حول صدّري وأنا أشّتَمُّ عِطّرها المُنبعثِ منها، مُتخيِّلاً رأسُها في الوسادة فأُقبّلها بشراهة، وتارةَ أتخَيّلُ أنّها شِفاهُها فأعضُّهم بقوة. متسائلا إذا ما كانتّ الوسادة تشعرّ بالشفقة أتجاهي، أو ترجوا لي الشفاء من أعراض الهذيان الأولى واختلال الأنية.

 

وضعتُ نصف دراعي أسفل فراشي الثقيل، وسحَبَتّ يداي كتاب لمُذكّراتي اليومية بعد أن وضعتّ القلم بين أصابعها.

 

ثم بدأت أكتبّ ما يجول في ممرّات خواطري وغُرف نفسي وأغوار بواطن ذاتي.

أشّعلتُ سيجارة في فمي ثُم بدأتُ في كتابة الاتي:

" اليوم أُعلن استسلامي، اليوم أرفع الرايةَ البيضاء عالياً لتُرفرف. ليس في سماء الأرض قُماشها تضربه الرياح، بلّ في الفضاء بين النجوم يُرفرف هناك.

 

اليوم أُعلن أن لا شيء يستحقّ المُكابدة في كبِده والشُرب من سُحّته، اليوم أعلّنتُ التخلّي عن كل شيء بين يداي، بل كِدّتُ أن أتخلى عن يداي أيضاً لولا جريان الروح في عروقها، ولولا إلهام الوجود الذي يُعبّر عن نفسه من خلال أصابعها.

أقول إنني استسلمت فلمّ أعدّ أشتهي مقاومةَ شيئاً في الوجود، فقد أصبحتُ كالرياح لا أتمَسّكُ بشيء ولا ألتصق بشيء.

 

أعلّنتُ في هذه الليلة أن أترُك جسدي يرقص بين الأشجار بعيداً عن البشر، وأجعل يداي تلّعب بالطين ولا تُمّسك سلاحاً. بلّ سأُحافظ على تنظيف قلبي يومياً من بقايا ترسُّبَات المعتقدات والعادات والتقاليد الوثنية، التي كُلّما تذكّرتُها دفعتّني أغصان الغابةِ من ظهري فترميني في النهر لأتقيأ سواداً واصفراراً من جوّفي. صَدَقَ من قال إن الطبيعة دواء لكل داء وعِلّة. وها أنا شُفيتُ بعد أن شرِبّتُ من سِحّر دواءها.

 

من اليوم سأعود طفلاً وأتسلّق أشًجار ثمار جوز الهند عارياً، لآكل من قشورها البيضاء وأدّهن شعّرِي من زيّتِها.

فلنّ أحلق رأسي وأُقصِرَ من طوله وعُمره، بلّ سأتركه ينمو بلونه البُنّي حتى يُصبح طوله بطول شجرة هايبيريون العالية.

ثم أرقص معه ليرقص معي، أو أضعه على وجهي فيحميني من أشعة شمس الصيف الحارة، وأعيش في سلاماً في الطبيعة الكبيرة، إلى حين قدوم الموعد الذي أترك فيها جسدي وأرحل إلى الكون وأتحدّ في فراغه الأثيري".

 

توقف القلم عن الكتابة! وحاولتُ مصّ رأسه لشفط الحِبر إلى أسفله ولكنه لمّ يكتب.

 

حاولتُ الخربشة برأسه محاولاً تحريكه بسرعةً عالية ذهاباً وإيابً على الورقة ولكن دون فائدة.

 

فذهبتُ إلى مكتبي في الغرفةِ الأخرى أبحث عن قلماً جديد.

 

وبينما كنتُ مشغولاً بالبحث، سمِعتُ صوت رسالةً وصلتّني على هاتفي المرّمِي في درج المكتب. ففتحتُ الهاتف وكانتّ الرسالةُ صوتية تقول:

 

" كنتُ وقحةً معك في حديثي مؤخراً لدرجة التقزز، فأنا أطلب منكَ أن تعّذرني على فعّلتي أولاً قبل أن أطلُب رؤيتك ثانياً".

 

ثم تنهّدَتّ وصدَر منها صوتً مُرتبِكً وقلق.

فحاولَتّ إخفاء ذلك عندما جمعَتّ أنفاسها في نفساً عميق ثم أكمَلتّ:

 

" هل نصف السرير الأيمن لا يزال فارغاً، أم هناك من يسّتحقه أكثر مني فاشّتراه".

 

فقلتُ لها مُبتسماً متجنباً الحديث بالألغاز:

 

" بل لا يزال فارغاً كما تركتيه بالأمس، ورائحتكِ لا تزال تفوح منه إلى اليوم".

 

فردّت برسالةً أخرى على الفور قائلةً فيها:

 

" أنا في طريقي إليك لأبقى معك إلى أخر الدهر. أه...نسيتُ أن أخبرك! أحمل معي زجاجتين من النبيذ الأحمر من النوع الذي تُحبه، تمنيّتُ لو كُنتَ تستطيع سماعهم وهمّ يصطدمون ببعضهم في الحقيبة على مقعد السيارة. صوت تصادمهم يُذكّرني بصوت كلانا عندما نتصادم في الحديث بدون هدف أو طائل.".

 

فأرسلتُ لها الرسالة الأخيرة قبّل أن أُعيد هاتفي في درج المكتبّ قائلاً:

 

" أمّا أنا فسوف أُضع كؤوس النبيذ الطويلة الفارغة فوق طاولتي المتواجدة على حافةِ الشلاّل الغزير، منتظراً قدومكِ بشوق، فليلتنا طويلة، وحديثنا سيكون قائماً إلى الفجر، وأما حياتنا فيبدوا أنها مديدةً".

 

فأغلقتُ الهاتف، ثم نظرتُ إلى الكون وقلتُ له بابتسامةً عريضة:

" ألهذا جعلّتَ الحبّر يجفّ في قلمي حتى أدّخلُ إلى مكتبي باحثً عن قلماً أخر؟ من أجل أن تجعلني أنتبه واستمع لصوت رسائل هاتفي الذي كان بعيداً عنّي وعن غُرفتي؟ ً.

 

ما أعظم تجلّياتك الغريبةِ وطريقتك. وما أعظم فيضَ التنوير النابعِ من حِكمتك".    

 

رحّم الحقيقة

 

لنفرش الزهور على مضاجعنا ونبلل أغطيته بماء الورد ولنعطّره بالقليل من ماء الزهر. فقليلاً من الجمال يطفئ الكثير من القباحة. وقليلاً من القباحة تطفئ الكثير من الجمال.

 

أعلم علم اليقين أنني لا أعلم لا العلم ولا اليقين، فعلوم اليوم نافعةً يُفتخر بها، وفي الغد تسقط هذه العلوم وتؤتي أخرى مكانها. فهذه هي أصل العلوم المتغيرة، وذلك هو اليقين العقلي. أنهم أشبه بالتمسّك بورقة شجرةً خضراء اليوم، ثم تتغير وتصبح صفراءً في الغد. هذا هو المتغير، فكن متغيراً كالأفعى وغيّر جلدك في الوقت المناسب، فكلّ ثوباً تتمسك به وترتديه طويلاً يصبع عفناً وتفوح منه رائحة الأوساخ. تغير مع المتغير، ولا تتشبث بالثابت، فأصابعك لن تقوى على رفع جسدك وتتشبث بحافة الجبل طويلاً، فعاجلاً أم أجلاً سيسقط جسدك في الوادي العميق. 

 

فأنت اليوم لست أنت الغد، وأنت الغد لست أنت في الأسبوع القادم. وبرودة اليوم ليست هي حرارة الأمس، وحرارة الأمس ليست هي دفئ الأيام القادمة.

 

الكون المتصوّف

 

تتقلب العصور والأجيال كتقلّبّ الشتاء والصيف، وتمضي السِنون الطوال ماضيةً قُدُماً متجاهلةً حِكَماً أغلى من الذهب وأثقل من الأرض وشمّسِها مُجتمعين.

وتناسينا حِكمتنا حتى دفعتها الرياح بعيداً ولمّ يتبقى منها إلاّ الفُتات القليل.

 

فلّ نتبع الرياح عسى أن تُرشدنا إلى الكنز المُقدس المنّسي، فنُخرج ما فيه من أسرار دعس عليها الزمن دعسًا، فنرتدي من ثوبها الفتّان على جلودنا الميتة، ثم نعصرها عصراً فنشرب من قطراتها المتساقطة لنروي بها عطشاً لم يُرتوى منذ حيوات وحيوات سابقة.

 

فما رأيك أيها الكون؟ فقد سمِعت أنك قد تصوّفتّ وأعدّت تعاليم حكّمتك القديمة في عصرنا المتسارع والمحكوم بالآلات الثقيلة والرقمية! ولكن لا بأس! ستتصوّف التكنولوجيا وسيتأمل الروبوت طمعاً في الوعي المحض الذي تجاوز التجاوز، ومزّق ثياب الجسد ورحل في رحلةً نجميةً منذ أكثر من سبعة آلاف عام. وأحتسي شاي مع لاو تزو في جبال التبت ثم تناول وجبةً واحدةً في اليوم مع سيدهارتا بوذا، ثم كتب الطاو الذي لا يُمكن الحديث عنه ولا الإشارة إليه بعد أن رقص رقصات التانترا مع شيڤا فسحبه الكون سحباً عميق ثم أعاده للأرض نقياً كالحليب الصافي. فانفجر الحب في قلبه فأصبح بوديدهارما، ثم فُتحتّ عينه الداخلية ليُصبح حورس العظيم الذي يرافقه تلاميذه الاثني عشر، طالبين الوعي وسالكين دربّ التنور بين معابد الأهرامات المُقدسةِ بُنيانها والسريةُ تعاليمها والخاصةُ تقنياتها.

فدفعه الزمن دفعةً بين الماضي القديم والحديث فعاش تجربة الفناء مع الحلاج وسبينوزا فأدرك أنه الكل في الكل، وتجوّل راقصاً حول نفسه بين الرومي والتبريزي عكس عقارب الساعة متجاهلاً الدُوَار ومستسلمًا فاردًا جنحانه للسماء بعد أن صعد فوق قمة الجبال بثيابه الفضفاضة، ومتكأ على عصاةً أسفلها يضرب في الأرض فيزلزلها، وفي قِمتّها قرون ثوراً مربوطةً بحبال شديدة الغُلط ليضع عليها كف يداه فيظل ظهره مُستقيماً،

 

ثم ردد قائلاً بصوت عالي والجميع ينظر إليه من أسفل الثلّة بصوتً يشبه صوت الرعد، قائلاً:

 

" يا قوم! لقد تصوّف الكون وأعاد تعاليمه المدفونة في البحار البعيدة!

 

يا قوم! لقد ظهرت الكنوز العتيقة من أعماق بطن الجبال العميقة! ولقد فتُحت أبواب السماء السبعة في العمود الفقري، وقد اقتربت جحيم العقل من الانطفاء لنسلك طريق الجنة موطن الوعي المطلق فوق تاج الرأس بسلام! فقد وجدّتُ وصفة اكسير الخلود في أخر صفحات الخيمياء القديمةُ أوراقها! وها أنا أخلطها جيداً فوق حجر الفلاسفة! فقد عثرت على سر الخلود!

فلا موت بعد اليوم!

فلا موت بعد اليوم!

فلا موت بعد اليوم!

 


مُريدةً عانقتّها الجبال

 

 

"أخبريني يا ايتها الجبال عن سبب اختباء الغيوم في قِمتّك كُلما سقطت الأمطار، كأنهم صبيانًا يجلسون خلف أعناق آبائهم وأرجلهم تتدلّدل من على أكتافهم العاليةِ هرباً من أن تطأ أقدامهم الأرض حذرًا من أشواكها المُسنّنه.

 

هل في الأعالي يكّمُن الأمان والحُضن المفقود؟ فالشُهب الساقطة من الأعلى في الوديان تُخبرني عكس ذلك، والرعد الذي يضرب في قمم الجِبال يُوحي بشيء مُختلف.

فقد ضربّتُ بقعر عصاتي الأرض ثلاثاً فأنبتت شجرةً رأسها يلمس السماء بينما عروقها الحية مُكبلةً في جوف الأرض.

فما الأعلى إلاّ أسفل، وما الأسفل إلا هو الأعلى ولكنا عيوننا قد جفّ مائها ويُبستّ أبارُها فلم تعد ترى إلاّ الجفاف والقحط، أمّا بصيرتُها فقد أصبحتّ مسكونةً بالضباب الذي حجبها عن نفسها فأصابها العمى رغم رؤيتها للقليل القليل ولو ظنّتّ أنها ترى الكثير الكثير".

 

وأنا أخاطب نفسي كالمعتوه في ظلمات الجبال، سمِعتُ صوتً حادًا قادمًا من بين صخورها، فلمِستّ حِدّته طبّلة أُذني حتى كاد أن يوقعني ضريرًا.

 

ثم تبيّن لي أنه صوت فتاةً حبال صوتها مُمزق، وقلبُها ينزف، ويداها تُنَشّف دمائها المُتهاطلة من خلف خطواتها المتسارعة وهي تُنادي قائلةً ولا أحد يسمعها:

 

" لم أعدّ أهابكِ يا ظُلمات الجبال الموحشة، فبداخلي ظُلمات خلف ظلمات، وقلبي يحمل ثِقلاً لا تقوى سبعة جبالاً من أمثالك على حمل ولو جزء منه. ولو أخبرتكِ بمقدمةِ قصّتي البائسة لنسفّتي نفسكِ نسفًا ولما خلّفتِ خلفك حجرةً واحدة حتى للذكرة".

 

قالت هذا ونزلت إلى قعر الجبال وردائها الأبيض يطير من خلفها كأنها راهبة.

أمّا شعرُها الطويل فقد غطّى وجهها وعيناها، فبدتّ لي أن خطواتها تعتمد على الحدس لا على البصر والنظر.

فكم من أشياء لا تراها العين الظاهرية فنراها بعيننا التي في جوفنا.

 

فقلت لها بعد أن رميتُ أحطاب الشجر في كومةً من النيران المُحترقة:

 

" تعالي يا صغيرتي فقد رميتُ اخوتكِ في الجحيم وقد حان دورك. فما رأيك بالموت قبل الموت؟ فتبيعين جلّدك لجنهم فتكويه حتى يخرج منه القيح ويفّنى ولا يلمسك أنت الضُر ولا الضِرار. فتُحدقين في النار وجُلدك يُشوى فيها جيداً عسى أن تُدركي أنك لا أحد فيهم ولكن شُبّه لكِ ذلك".

 

فاقتربتّ وعلى وجهها ابتسامة سُخرية مرسومةً بأيادي فنّان وقالت:

 

" يا ليت الحقيقة كانت جميلةً مثل الخواطر والشعر الذي تعزف به، فقد مللتُ سماع حلو الكلام الذي يصادفه بشاعة القدر في المُقابل."

اتركني أمشي حيث تأخذني أقدامي فلم يتبقى في جلد جسدي مساحةً ومُتسعّ لجُرح أخر.

ولو كان هدفك الفتكُ بالكنز الذي يبحث عنه الرجال، فمكانه يختبأ بين أفخاذي المتورمة. فلم اعد أستطع الدفاع عن نفسي لأن نفسي التي لطالما دافعتُ عنها قد غدرتّ بي هي بدورها. فلم اعد اثق بأحد".

 

قلتُ لها بعد أن حدّقتُ في عيناها جيدًا:

 

" نعالج الداء بالداء ونتساءل عن تفاقم الألم، ونغسل أجسادنا بالسم ونشكي من تقرّح الجلد.

ثم نصعد الجبال بحثًا عن ذاتنا، فيا ليت ذاتنا حقاً تختبأ بين صخور الجبال كما ظننتِ.

نبكي فتسمع أذاننا بكائنا فلا تفعل للدموع شيئاً، ثم نشتكي ظنًا منّا أن الشكوى تفتح جنة الروح في داخلنا، وما أدركنا أن الشكوى تفتح باب جنّتنا لثواني ثم تُوصده مرةً أخرى بقفل أكثر صلابةً من أخوه الذي كان قبله".

 

قالت والتساؤلات تتسارع من لسانها، حتى دمجتّ السؤال الأول مع الثاني بدون أن تشعر:

 

" إذًا ما لحل عندما تغيب الحلول ويعجز الطب وتختلط الأمور في بعضها وتتضارب العوالم، فينبح الأرنب ويتكلّم الديك كالبشر، ثم تُحلَب القطط ويتغدوا ذوي الأنياب الحادة على الأعشاب، أليس هذا العبث بعينه؟".

 

قلت لها بعد أن أشعلتُ سيجارةً في فمي واستنشقتُ دخانها جيدًا ثم زفرته خارجاً وأنا أحدّق في دخانه المُنبعث من فمي:

 

" ما الخطأ في نباح الأرانب، فكلنا ننبح عند الغضب.

أما إذا تحدث الديك كالبشر! فتلك إهانةً للديك قد لا تعجبه. فلا أحد يُبدل صوت الغناء الصباحي من أجل الثرثرة كالبشر.

فما رأيك أن أخذك معي في رحلةً إلى عالم تسكنه الفانتازيا الحقيقية، وتظهر فيه الجبال عكس التي ترينها بحواسك، وترينني وأراك عكس ما نرى بعضنا الآن، فتصّحين صحوةً لا نوم ولا موت بعدها؟

 

هزّتّ اكتافها وقالت:

 

" لنذهب إذاً ونغادر هذا العالم، فقد مللتُ الوهم والخداع وتشابه الليالي ببعضها، عسى أن يعجبني الموطن الجديد فأسكن فيه إلى الأبد".

 

ثم جلسنا في تأمل عميق، حتى ظهر في بصيرة كلانا باب كهف ضخم، فظهر منه شُعاع أبيض أضاء ذواتنا وأنار ظُلماتنا وسحبّنا إليه كما تسحب الأم رضيعها إلى ثديها. فتركنا عالم الوهم وأبحارنا في عوالم الحقيقة.

وتركنا أجسادنا مُتكئين على بعضهم يُحدقون في النار لسنوات لا يمكن عدُّها، حتى تحولوا إلى رماد مُقدس، وفي داخلهم عالماً مقدس لا تُدركه الأبصار ولا تسمعه المسامع.

 

فراغ الفراغ

 

اتّبعني يا جسدي لكي أسجُنك في زاوية خلّوتي، ثم أطرُد روحي مِنكَ لتُحلق فوق النجوم لبضع سويعات. لتتجاوز الزمكان مُحلّقةً في الأعالي قاصدةً الفراغ حيث يكمن العرفان خلف مالا تُدركه الحواس.

 

تغذّى يا جسدي بفاكهة السكون والانضباط المطلق في التأمل، وأشرب يا عقلي شراب الصمّت الأخرس الطويل فلا حاجةً للثرثرة. فالأبواب موصده علينا فلا أحدًا هنا غيرنا. باستثناء القليل من نور شمس الغروب العابر من ثُقبة النافذة المُحطّمة.

 

فلنّ تُفتح الأبواب ولو كان الطارق ملاكاً أو شيطاناً أو أنسً أو أي كياناً يدُب في عالم الروح أو المادة.

ففي لحظات الفناء هذه تُبطل العلوم، وتزول الهوية، وتُمحى الذاكرة ويختفي المستقبل، ولا يبقى شيئاً سوى الوعي الذي يسبح بالداخل والخارج، فأُدرك أنني أنا المتأمل والمتأمل فيه، أنا الناظر والمنظور إليه، أنا الظاهر والباطن، أنا الباحث والمبحوث عنه. أنا اللاشيء خلف الشيء، وأنا الكل والكل أنا، وأنا اللاشيء خلف الكل والأنا، أنا فناء في فناء، فناء في فناء، فناء في فناء. فأختفي ويختفي الفناء واللاشيء، ولا يبقى أي شيء حتى اللاشيء نفسه يختفي، ليختفي بعدها الاختفاء بعينه.

 

عندما ذهبّتُ إلى الكون والشمس

 

في مثل هذه الأيام الرماديةُ سماءُها ارتديتُ مِعطفي الطويل الناعم على جلّدي، ووضعتُ عصاتي بين اصابعي وغِمِزّتُ بقعرها في الأرض مُرسلاً التحيةً لبطنها العريضة التي احتضنت الأموات في جوفها وحوّلتهم إلى رماد، وتركتّ من عظامهم فقط ذلك العصعص المتين الصلّب.

 

أمشي ولا أنظر خلفي، فعيناي في وجهي ولمّ تكنّ في مؤخرة رأسي يوماً، فقد نسيتُ الماضي ونساني.

 

أحدّق في البشر كما يُحدّق الطفل في والديه بعد أن رماه رحم أمه عرّض الحائط في حياةً يجهل قاطنوها أسباب وجودها. فتساءلتُ مثلما يتساءل الطفل قائلاً:

 

كم عدد الأرحام التي أنجبتّنا في كل حياة، وكم من مرةً ابتلعتّ الأرض أجسادنا فخَرجّنا منها قبّل أن يتعفن ما كان حياً قبل موته. وكمّ من مرةً احترقتّ أجسادنا فغادرناها قبل أن تُشّوى وتتحوّل إلى رماد يدّهن به المُريدون جلودهم أو يضعونه في تُحفةً فنيةً ينظرون إليها في كل مناسبةً واحتفال بلا سبب أو طائل".

 

قلتُ هذا واستمريت في المشي واضعاً بصري على الأرض حتى ارتطمّتُ ببائع جوّال، فرفع صوته في وجهي حتى بللّني بلُعابه قائلاً:

 

" كُسِرتّ دراعي وتحطّم فك أسناني ولم يتبقى منّي إلا الظهر المُقوّس وأرجلي الضعيفة، فحذاري يا بُنى أن تظلم أحداً بجاهلةً ولو كان ذلك بمُجرد ارتطام بسيط".

 

قلتُ له بعد أن رأيتُ تقلُبّ صُحف الحكمة المُوقتة في عيناه:

 

" لولا السقوط لما علِمنا قيمة النهوض، ولولا صياح الديك فجراً لما أدّركنا بركة الصباح. ولولا سكون الليل لما أصبح التأمل فيه مُقدساً. فصلّي بروحك في ملكوتك قبل أن تُصلّي بجسدك. فإن كانت صلاة الجسد أعظم من صلاة الروح!، لمَا مات الجسد وبقتّ الروح خالدة ناظرةً إليه وهو يفّنى. ولمَا أرتطم جسدي بجسدك فشكوت لي همّك ونسيت ملكوتك الذي فيك".

 

ثم نظرنا إلى بعضنا بابتسامة لا أحد غيرنا يعرف معناها، وعمّ الصمتُ بين كلانا تاركين طاقتنا تمتزج جيداً في بعضها حتى نُصبح شيء واحداً متجاوزين الثنائية.

 

وفجأة مسك بأصابعه برّادًا قديماً شكله وباهتا لونه ورفعه إلى الأعلى حتى ظننتُ أنه سيُشير به إلى ملاك في السماء، أو أنه سيمّسح عليه بكفّه ليظهر منه كياناً روحياً يحقق أمانينا. رغم أنني أراه يسكب منه شايً أخضراً لونه وخفيفاً جريانه ومريحةً رائحةُ أعشابه، يسيل كالشلال من البرّاد المُعلّق في السماء بيده اليُمنى، قاصدًا سيلانه كأساً شفّافاً واقفاً على طاولةً صغيرة. بينما لسان الرجل يحّلف يمينًا ويقّسِم باسم الإله قائلاّ:

 

" لن تُغادرني إلاّ بعد أن تحتسي من هذا الشاي وعلى عيون الأشهاد، ونتحدث عن الكنز المفقود في الجوهر، فإمّا أن ترّوِني من نهر حِكمتك وتُهديني مُفتاحًا كنتُ أبحث عنه منذ حيوات وحيوات!، أو أرّويك أنا من نبع فضّلي عسى أن تجد ما كنت تبحث عنه في سُباتك القديم ووهمك الحديث".

 

تم أبتسم كلانا مجدداً ولكن هذه المرة كانت ابتسامةً ممتلئة بالألغاز التي يصعب التحديق فيه طويلاً لما تسببه من صُداع للرأس وسوادًا للقلب.

 

شرِبتُ كأس الشاي معه في صمت ثم وقفتُ ومسكتُ نهاية ردائي الطويل وقلت له:

 

" ليس لدي ما أعطيك إياه فإن ما في جُعبتك أعظم مما أبحث عنه أنا الأن. أتركّني أذهب بعيدًا عن هنا فحرارة المكان قد بدأت في حرّق جلدي الرقيق، فإنني أنتمي إلى أرضاً تسقط فيه الثلوج الباردة، فحرارة موطنكمّ بدأت في إنهاك جسدي ورحلتي الطويلة تبعُدّ بضع كيلومترات عن هنا، فوقّتي قصير كقصر عُمّر الروح في الجسد".

 

قال الرجل بعد أن حدّق فيّ وأنا أرتشف الرشفة الأخيرة من الكأس:

" أي بُقعةً ستقصِدُها أقدامك؟ ألا تعلم أن البشر يخافون أهل البواطن وينعتونهم بالمشعوذين. فاحذر أن تسقط بين أياديهم السوداء فيرموك حياً في نيران الجحيم فتتمنى حينها حرارة موطننا على تلك النيران القاتلة".

 

نظرتُ إليه ونظر إليّ في تعجّب، ثم ركِبتُ حصاني وحضنتُ مؤخرة رأس فرَسِي حتى أختلط شَعّري البُنّي بشعره البُنّي ليصبحوا شعراً واحدًا، ثم همِستُ في أُذن الجواد الكبيرة قائلاً له:

 

" اذهب بي إلى السماء فقد تحققتّ أُمنيتك وظهر لك جنّحان، حلّق بي بعيدًا حيثما يُرشدك حدّسُك، فنحن نمتطي بعضنا وإنني لستُ سيداً عليك. وجلوسي على ظهرك ليس إلاّ كرماً ولطفاً منكً بحالي يا جواد الخير والنور".

 

رفع الحصان دراعيه أتجاه الأعلى وكأنه يستعد للتحليق. ثم حلّق بي مُسرعاً إلى الأعالي في أتجاه الشمس التي أقترب موعد غروبها.

 

فقال الرجل بصوت عالي وهو ينظر إليّ من الأسفل:

" ويلك أيها المشعوذ. فقد شعرّتُ بخوارقك الشيطانيةُ منذ البداية. فحتّي السُم الذي قمتُ بخلّطه مع أعشاب الشاي في كأسك لم يقتلك. فتارةً تمشي على الأرض وتارةً تُحلق في السماء. فإني أعهد عليك عهد الرجال أنني سألزم مكاني هنا حتى أُحدق في جثثك وهي تسقط من الأعالي حينما يقبِطها ملِك السماء أو تنتهي عن فِعلك".

 

فنظرتُ إليه وإلى قريته الصغيرة من الأعلى وقلتُ له:

 

" لقد حذّرتني من سِهام البشر الحادّة ونسِيتَ إنك كنت قد حقنّت جسدي بسهمً مثل سهامهم بل أشد قسوةً وقوةً مما يمتلكون. فسهمُك كان مغموسًا في السُم جيدًا يا بُني قبل أن يتلقاه ظهّري الرقيق بصدرً رحبّ. فالذي يحكُم السماء قد أنجاني من شرورك وطيشك، فعبتًا تنتظر جثتي تسقط من الأعلى، والأفضل لك أن تعود إلى مخّدعِك وتنقُض عهدك. فغيرك قد أنتظر ما تنتظره منذ سنوات طويلة إلى أن ماتوا وحضِرتُ جنازتهم ورفعتهم على أكتافي ثم دفنتُهم بيداي هاتين واستغفرت لأرواحهم الطيبة حتى وإن شوّه العقل زينتها ولطخّها بالدماء".

 

قلتُ هذا وادرتُ عُنقي للشمس مُستمتعًا بالتحليق فوق جوادي وهو يُخرج صوت الصهيل فرحًا وترحيبًا لما هو مُقبل عليه.

 

ثم أغمصّتُ عيناي مستمتعاً بمرور الرياح السريعةً التي تعبر جسدي وقلت بيني وبين نفسي:

 

" رسالتي أثقل من جسدي وأكبر من عُمره الصغير. وحِبّرُها المختوم عليها أطّهر من المِسّك والعنبر. وقد اشتقت لأيام الجهل والتبعية، فيا أيها الرسول الذي بداخلي ألطف بجسدي فالأرض كبيرةً والناس مُنشغلون عما تحمله يداي المتعرّقتان.

ولولا دُرر السر المكنون لما أنفجر الحب في جوفي ولما اختطفتني منّي وتركتني روحاً تحّمل ثقل هذا الجسد على أكتافها طوال هذه السنين".

 

بعدها فتحتُ عيناي وقد اقتربتّ أجنحة الجواد من الوصول إلى الشمس البرتقالية وأنا غارقًا بين الرياح التي ترتطم بجسدي وبين حديثي مع نفسي في مكانًا لا تصله الأبصار.  

 

فجأةً نطقتّ الشمس متحدثاً معي حتى خاف الجواد وظن أنه قد جُنّ، وقالت الشمس:

 

" ما بالك يا بُني تتحسر وقد رفعناك إلينا، وألبسّناك من ثوب الجِنان وغسلنا قلبً بالماء الزُلال وعطّرناه تعطيرًا.

ثم كسيناك بالياقوت وزيّناك بالمُرجان ورفعناك رفعاً جميلاً.

 

أنظر إليّ أنا أمك الشمس يا بُني، فلا تخجل من نوري، فإنني أحترق في كل يوم من أجلكم لكي أعطيكم الدفء من لهيبي فتُنشّفّ أجسادكم بعد تبّلُلها من ماء البحار والأنهار. وتَيّبس من خلال شعاعي ثيابك المُبللة. بلّ أُغدّي أجسادكم بما تحتاجونه من نوري فلا ترون الظُلمةَ أبدّا ما دُمتُ حية.

فهل رأيتني يوماً أشتكي من أكل نفسي بنيراني من أجلكم؟".   

 

حينها نظرتُ أليها كأنني مُريدًا رقصتّ روحه بعد سماعها عزفًا من أوتار الحق التي لامستّها أيادي فنّانً حادّق يعرف جيداً ألحان البهجة والمسرّات ومحفزات اللذة وخباياها وقلت لها:

 

" أطوف حولكِ يا أميَ الشمس عسى أن يصنع دوراني حولكِ رياحاً باردة تُخفف عليك شدّة احتراقك وتُغديك ولو بالقليل من الجَميل فيما تصنعين بنا.

أفلا أشهد ذاتي بذاتي أنني سهوّتُ في ظُلمات نفسي فغاب عنّي نوركِ فلم أعد أراكي. فرحمةً منكِ نطقتِ فأنجيّتِني من ظلمات نفسي بعد أن تخبّطَتّني رماح ظنون النفس وسيوفها.

مُريدًا لكِ يا أمي الشمس، ومُريدًا لك يا والدي الكون. فقد أمتزج ماء نوركِ مع ظلام الكون فكوّن القطبية فأنجبتموني ورفعتموني ولكنّ الأنسان يحبّ العقوق. أوليس من خلال العقوق نتمردّ على الوهم يا والدِي الكوّن؟".

 

أجاب الكون بصوتً يُشبه البُوق فهزّ المجرّات وغيّم السماء وهيأ البراكين لكي تنتفض وقال بصوته الداخلي الذي عهِدّته:

 

" يكون التمرد يا بُني بالسُمو والنُمو في جوفي ثم الاستحمام بنور زوجتي الشمس. أوليس أنت القائل في أبيات شعرك بالأمس:

 

 

" لمسّتُ سكينة المحبوب

وفُتح ما كان عن بصري محجوب

وأدركت أن الجسد ليس أكثر من شيء مركوب

حينما اختطفني مني بكل ما حملته يداي من ذنوب

كعاصفةً ضربت كأس أناي الذي بالجهل كان معيوب

لتُسقطها أرضاً وتجعل مائها في بحر العشق مسّكوب"

 

ثم صمت الكون بعدها واختفى صوته وعادت المجرّات إلى دورانها وهدئتّ البراكين وزالت الغيوم من على قِمة الأرض في الأسفل.

 

ثم نظرتُ إلى أبي الكون وأمي الشمس وقلتُ لهم بصوتً مُنخفض:

 

" نعم! لقد قلتُ ذلك، وإنني على ذلك، وسأكون على ذلك مادامتّ الرسالة في كفّ يُمناي وجوادي يُحلّق بي حيثما أريد".

 

بعدها أغمضّتُ عيناي قاصدًا الذهاب في رحلةً صوفيةً أفّنَى فيها فأختفي. حتى هَبّ صقّر الحق ينظر من جبّهتي ففُتحت بصيرتي النائمة ومُتّ قبل أن أموت.

ثم تمزّق جلّدي واسّتُبّدِل بالنور الساطع من الأم المُشرقة أمامي، وقلتُ للجواد عُدّ إلى الأرض فلم أعد ذلك الشخص الذي صعد قبل ساعات إلى الأعالي.

فضربّتُه بكعب قدمي على بطّنِه فأخرَج صهيلاً زعزع الأرض ومن فيها حتى ظنوا أن قيامتهم المُنتظرة قدّ قامتّ وفُتح وثاقها وقُرعتّ طبولها في السماء. ونزلّتُ كالشهاب الساقط مُحدّقًا في الأرض التي تبّكي من القهر والقحطّ.

 

فقلتُ لها وأنا أهبطّ بسرعة الضوء بعد أن دخلّتُ بُعد سماءها الأول وردائي وشَعري يطيرون خلفي في الهواء الطلّق، وجوادي بصهيله لا يزال يصّعق بصوته مُستمتعا بالطيران.

قلتُ لها صارخًا بصوتً عالي:

 

" افتحي أبواب السماء يا أرضي فإنني نذيرًا يحمل الورود في يُمناه لا السيوف.

افتحي الأرض فقد أتى الإذن من الوعّي المحض التي يُسيّر الأكوان المتعددة على بِكرةِ أبيها.

ذلك الوعي الذي لم تراه شمساً ولا قمراً إلا وانحنوا لعدّل صِفاته وبراعة صناعته.

افتحي الأبواب وأجعلي الغيوم تبكي فرحًا لتهّطُل منها أمطارًا على أرضكِ اليابسة لأربعين ليلةً ونهار. فتُعيدها خصّبةً كما كانتّ قبل ألاف السنين، فتثمر فيها الأشجار وتصل إلى عنان السماء، ونرى طولها يُلامس الغيوم، ونرى جدورها في العُمق يُلامس نواتكِ.

افتحي الأبواب فقد بدئت التعاليم في السقوط، فمِن ورائي كل حضارات العالم الروحيةً تمّتطي أحّصِنتها بعد أن نساها الزمن الحديث المضطرب. فقد اقتربنا من الهبوط فوق سطح يابستكّ. فاجعلي أشجار عِنبك تعّصرّ أجودّ أنواع النبيذ للضيوف. واخّرِجي نساء العالمين في صفوفاً يضربون على الطبول كترحيب لقدوم الضيوف. فأيامنا القادمة طويلة، صدقيني يا حبيبتي الأرض!، أيامنا القادمة طويلةً جدًا. والرسالةُ لا تزال في بدايتها.

 

 

البحث عن ربّةّ الحب والجمال أفرُوديتّ

 

أسرع يا سائق العربة الخشبية واجّلد الأحصنة جلّدتين على ظهورهم.

فالشوق لرؤية من خطفتّ قلبي قد أفقدني صوابي.

 

كتبّتُ ألف رسالةً لها وعطّرتُ أوراقهم بماء الزهّر قبل أن أُعلّقهم على أعناق الطير الزاجل ليقصد شُرّفتها المُطلةِ على بحيرة إليوكا.

 

ولكنّا صمّتها المُزمن قد اثار جنوني، وبُرودتها قد اجّمدتّ كَبِدي، أمّا شُكوكي فقد زادتّ من حُمّتي حتى اضطربتّ معدتي فاعتزلّتُ من حينها الطعام.

 

ولكن كلّما تذكرّت صفات جمالها الفتّان شعرّت بتحسن وكأنها أفرُوديت ربّةَ الحب والجمال والنشوة.

 

عيناها الزرقاء تسّحر الناظرين والعُميان على حدّ سواء.

لا يمرّ أحد من طريق ثقوب غمّازاتِها المحفورة على خدُودها إلاّ وسقط فيهما بدون أن يشعر.

أكتافها العريضة تُعطي زينةً لكل فستان يقف عليهما.

تمّشي بأقدامها الناعمة وتتبعها عصافير الكناري في كل شوارع مدينة سالفاستيا.

صوتها العذّب يسقي الورود ويحيهم ثم يرشّ على أوراقهم قطرات الندى.

جفونها شبّه مُغمضةً تُريح الناظرين إليهما وتشّفي المرضى من ذلك الداء العُضال.

لم يجرء لساني يوماً ليتحدث معها فاخترتُ الطرق المختصرة التي أعانتّني فيها يداي اليُمنى وحمامتي الطائرة وبعض أوراق الكتابة وقلم الريش الطويل. وها أنا ذاهباً إليها مُبحراً إلى شاطئ الأمان وأمواج الثقةِ تجري من خلفي، فلمّ أعد أخاف من التعبير عن الحب بقدر عزيمتي التي منعتّني عن التفكير بالكره".

 

نظر إليّ السائق العجوز بلمح البصر، ثم أدار رأسه ليُكمل جلّد الأحصنة. ثم قال وعود الأسنان الخشبي واقفاً بين أسنانه الأمامية:

 

" يبدوا أنك لا تنحدر من عائلةً نبيلةً يا ولدي، فلون دمائك يخلوا من الطابع الملكي ورائحته لا تفوح بذلك العطر الرفيع الذي يعهده الأمراء.

أم حسِبّتَ أن ماء الزهر الرخيص الذي معك سيُغري من تشرب من ماء الورود في أكواب الذهب الخالص.

فقد سمِعتُ أنها تواعد أمير القرية التي مررنا فوق ترابها قبل بضع سويعات، فقد تركَتّ قصّرها منذ تسعة شهور. فاعتذر من حمامتك الزاجلّ وقل لها سامحيني! فقد أرسلتكِ يا حمامتي عدّة مرّات إلى بيتً مهجوراً سكنته الأشباح ولم أكنّ أعلم برحيل المعشوقةِ الضائعة في القُرى".

 

 

فقلتُ له بسخريةً سببها تزعزع كرامة الأنا في داخلي:

 

" أترك مالا علم لك به، وانشغل فيما يخصّك. فقد صُنع السوط لتسيير الخيول وجلّد الدواب أمثالك".

 

فضحِك عالياً حتى طارت الطيور من فوق الأشّجار التي مررنا من أسفلها وقال:

" لسّتُ أهينك يا بُني ولكنني اعتدتّ على عزف الناي في بلاطات السادة، ومسحّتُ بمنديلي زخرفات الذهب التي يضعون عليهما كفوف أياديهم المدهونةِ بزيوت الأزهار.

فمن خلال وصفك لها يا بني قد عرفّت من هي! بل عرِفت ذلك النوع من الأرحام الذي قام بقدّفها في ذلك القصّر المُزخرف بالألماس في باطنه، وظاهره مرشوشاً بزهور الفُل الفوّاحة.

حبيبتك تُدّعى إليزا إذا لم تكن تعرف".

 

ثم نظر سائق العربة إليّ بابتسامةً خفيفة، ثم أعاد وجهه للأمام وقال:

 

" أعتقد أنك رؤيتها تمّتطي جوادها الأبيض ويتبعها حُرّاسها بخيولهم السوداء، وسيوفهم التي في أغمداها لا تُخطئ في أصابتّ من يُعكّر صفوا الأميرة. فاحذر يا بّني فعشقك من طرف واحد، فهي لا تعرف عنك شيء أبداً. وأخشى عليك من عالم الأحلام والشعر الذي فصلك عن الواقع حتى ظننت أن هذه العربة سيُسمح لها بالدخول في قصور الأكابر. ولكن لن أُفسد عليك حُلمك رغم معرفتي بأنك حالماً يحلم".

 

نظرتُ إلى نافدة العربة التي على يميني محاولاً تجاهل ما يقوله لسان العجوز من حِكم لا أفقه معانيها. رغم معرفتي أنه ينطق بالحق ولكنّ حُلمي قد أختلط بواقعي فلم أعدّ أفرّق بين الروايات والحقيقة.

 

ثم أغمضّتُ عيناي ودخلتُ في عالمي الخيالي وبدء مُخدّر الخيال في إعطاء مفعوله فوراً في فكّري. فظهرتّ لي صوراً تمنيتُ لو كانت حقيقية. رأيتُ نفسي أدخل إلى قصرها وجنودها في حضّرتي وحضّرتها ساجدين.

ثم رأيتُها تأتي إليّ راكضةً بفستانها الأبيض من باب القصر الداخلي والحمًامًاتُ البيض يُرفرفون من ورائها وفي مناقيرهم يمسكون بجدور الورود الأحمر.

هيّ تركض والحمام يتّبعها. حتّى عاد إليّ ذلك مشهد أفرُوديت وبدأت بالشعور في التوبة عن البُغض وعبادة الحُب والجمال إلى أخر الدهر.

 

رأيتُها تقترب منّي والطيور تحلّق فوق رأسها، فأمسكتُها بين ضلوع صدّري وأحّكمّتُ سجّنها جيداً بين دراعي وهمسّتُ في أذنها اليُمنى قائلا:

" سيفي المُعلّق على خُسّري يروي مُعاناة وصولي إليك، فقد سلكتُ الهِضاب وقاتلّتُ الأسود والسِباع، ثم هزِمّتُ أكبر الشياطين في ملحمةً وقعتّ في السماء، وبقايا أجسادهم تشهد عليهم الأرض، فقد شربتّ تُرّبتها من دماءهم الساقطة من الأعلى".

 

أوقف خيالي سائق العربة بعدما كنتُ منتشياً في موطني الداخلي وقال لي بصوتً يُخرج الأنسان من الجنة ويرميه في مكبّ الجحيم حيث الواقع المرير الذي نهرب منه عن طريق النوم والخيال:

 

" أعطني زجاجة النبيذ من أسفل مخّدعك فسوف أكتب عليها أسمها لتُقدمها لها كهدية.

أليس من البرود أن تدخل إلى بيت الضيوف وأياديك فارغة، فما بالك بدخول القصور المُنظّمة".

 

أعطيته زجاجة النبيذ الرخيصة ووقف بعربته في منتصف الطريق بين الوديان. واستمتعتُ بالتحديق فيه وهو يكتب أسمها عليها وينطق بكل حرفّ من أسمها تكتبه أصابعه. يكتُب إ..ل....ي...ز..ا. وأنا استمتع بكل حرف ينطق به.

ثم أعطاني الزجاجة وأمرني بأن أجعلها تواجه الشمس من شُرفة العربة حتى ينشف أسمُها على الزجاجة ولا يتلطّخ.

 

فقلت له بعد أن تناولتُ الزجاجة منه:

 

" بلّ سأضعها بجانب قلّبي. فقد حفرّتُ صورتها هناك فلن أجد صعوبةً في حفّظ أسمها بجانب صورتها.

 فقلبي الواسع قد سخّر مساحته من أجلها منذ فترةً من الزمن".

 

غربتّ الشمس، وأخذني النوم في الطريق وتمددّتّ، وسائق العربة رمى فوق جسدي غطاءً مصنوع من صوّف الدواب. فأتاني منام تمنّيتُ لو لم ينتهي.

 

رأيتُ نفسي في منامي أرتدي زي الأُمراء الأسود، وحبيبتي إليزا تضع الكُحّل حول عيناي فتزيدهم هيبةً وجمالاً. بينما أقدامي مشغولةً في حمّام زيت دافئ أعدّته هي بنفسها.  وجسدي يستشعر نسيم الرياح القادم من شُرفة القصر. وستائر الشُرفة تتحرّك مع تدفق نسمات الرياح وكأنهم مُنسجمين معنا.

رويداً رويداً هبّت رياحاً قويةً فجعلتّ ستائر النافدة البيضاء تقف فوق رؤوسنا حتّى غطّت أجسادنا فلمّ نعد نرى شيئاً سوى البياض المختلط في البياض.

 

فقلت في نفسي:

 

" قد أتت الجنةُ قبل موعدها وقد دخلّناها قبل مماتنا".

 

ولكن فجأةً سمِعت حبيبتي إليزا تقول لي بصوتً عالي وغير متوقع:

 

" أستيقظ فلقد وصلّنا، أستيقظ لقد وصلّنا".

 

وفتحتُ عيناي واستيقظّتُ من منامي فوجدّتُ سائق العربة يَخُضّ صدّري ويقول:

 

" أستيقظ لقد وصلنا، أستيقظ لقد وصلنا. كنتُ أناديك منذ دقيقة ولكنّ نومك ثقيل".

 

قلت له:

 

" يا ليتك تركتني في ثقل نومي، فأسترخي تحت أحلامه ولا أنزع ثِقله عنّي أبداً. فلقد رأيتُ إليزا في المنام".

 

فقال سائق العربة وهو يبتسم بشفتيه:

 

" أمّا الأن فستراها في الحقيقة.

أترك الأحلام وأذهب حيثما يتواجد الورد. فرائحة الوردة في الحقيقة أجمل من رائحتها في الأحلام".

 

حاول سائق العربة أن يدخل إلى القصر ولكن الجنود أوقفوه. وأصحاب الرماح كانوا قد استعدوا للرمي. وسهّم أحد الحرس كان مشدوداً في القوس جيدًا. فلو تحرّكتّ خيولنا شبرًا إلى الأمام لكانوا قد مزّقونا.

 

فقلتُ لسائق العربة وأنا أحدّق في القصر باستغراب:

 

" هذا ليس قصر حبيبتي إليزا، فهو مختلف عمّا رأيته تدخل له أخر مره".

 

فقال سائق العربة وهو مرتبك من الجنود:

 

" ألم أقل لك يا أيها المعتوه أن الأمراء ينتقلون بين قصور بعضهم البعض. فقد علِمّتُ أنها هي الأن هنا في حفّل رسمي في هذا القصر. فاترك عنك الشكوك ودعني أفكر في خطةً تجعلك تسلك من بين أقدام الحرس حتى تصل إلى أقدامها الناعمة.

فالوقت ضيّق وموسيقى الاحتفال قد تتوقف في أي لحطة".

 

ثم أعتذر سائق العربة من الجنود، وعاد بجواده إلى الخلف بعيداً عن القصر. بينما أنا أشاهد نفسي أبتعد عن الحب ضعيف القوى.

 

فجأةً توقف سائق العربة بين أحد الأشجار في هذه الليلة وطلب مني النزول. فنزِلّتُ من العربة وتساءلت عن سبب طلبه هذا منّي. 

 

فوقفتُ على الأرض أشاهده ينحنّي أمامي، ويضع صمغًا على حدائي ليمسك جوانبه المتقطعة والباهتة ويُلصقها ببعضهما البعض. ويضع إبهامه في لُعابة ليبلله جيدًا حتى يمسح به أثار الجروح البيضاء على جلّد رُكّبتاي.

 

قلتُ بيني وبين نفسي:

 

" تشاجرتُ مع هذا السائق في بداية رحلتنا إلى هنا، ولمّ أكنّ أعلم أنه مُهتمّاً لما أنا مُهتمّاً به. وكأنه أبّ أو جدّ رحيم. يُحاول تصحيح صورة وجّهي وجسدي بأصغر الأسباب. فكمّ من أصدقاء أوفياء زارونا في حياتنا ولمّ نعلم قيمتهم فتجادلنا معهم بسبب الطيش النابع عن الكبرياء".

 

ثم بعد ذلك وقف وقال لي وهو يبتسم ببراءة:

 

" لقدّ أصّلحتُ ما يُمكن إصلاحه في هيئتك. وما لم أستطع إصلاحه أتركه للقوة العُليا فوق السماء تتكفّل بأمره. أمسك زجاجتك وأذهب للقاء عروسك".

فقلت له مستهزئ من قوله:

 

" كيف سأذهب لعروسي إذا كانت الشياطين السود تنتظرني بالرماح أمام بيتها، وتعِدوني بدخول الدرك الأسفل من الجحيم".

 

فقال لي وهو يحُكّ جبهته:

 

" ألم أقل لك إنني خبِرتُ عوالم القصور ومسحّتُ الذهب في غرف ضيافته الواسعة. وعرِفّت كيف تُفتح أبوابه المُقفلة ولو بدون مُفتاح!".

 

ثم نظر إلى زاويةً من زوايا القصر وقال:

 

" لقد عمِلتُ في هذا القصر منذ زمن بعيد.

وتلك الزاوية التي تطلّ على الحديقة يتواجد بجانبها حُفرةً في جدار القصر حفِرتها أنا بيدي عندما كنتُ أهرب من القصر لأرى حبيبتي قبل زواجي بها عندما يكون الجميع مشغولاً بالرماية وركوب الخيل بالداخل. 

فادخلّ من تلك الحفرة حتى تأخذك إلى مطبخ القصر، ومن هناك أتّبع حاسة الشمّ التي لديك لتعثر على رائحة حبيبتك حتى تظفر بها".

 

ذهبّتُ وزجاجة النبيذ في يدي، محاولاً التقدّم بدون أن أصدر أي صوت.

وخيالي يسرح مع إليزا في العالم الأخر، بينما جسدي يحاول الوصول إليها في هذا العالم المُوحش.

 

اقتربت من الحفرة وكان الدخان الفاسد يخرج منها.

كتمّتُ أنفاسي وابتعلتُ قي ريّقي مالا أطيق، حتى وجدّتُ نفسي في فتحة المطبخ الخلفية.

 

وقفتُ هناك أُحدّق في المكان. كان هُناك أسماكً ضخمة الحجم، وأرز مطبوخاً بالكركُم الأصفر، وأخر مطبوخاً بخليط الطماطم، أمّا الثالث فكنا مختلطاً بالثوم.

 

وأنا أحدّق في الموائد السماوية التي حوّلي سمِعتُ صوت أقداماً مُتجهة إلى باب المطبخ. فذهبّتُ مُسرعاً إلى أحد الدواليب فاختبأتُ فيها.

 

ورأيتُ من ثقبة صغيرةً أثنين من النِسوةِ يضحكون وهمّ يعبرون باب المطبخ. وقالت إحداهم إلى الأخرى:

 

" لا أصدّق أن اليوم زفاف الأميرةُ إليزا، فقد كانتّ عزباء طوال تلك السنين التي مضتّ. ولحُسّن حظها أنها تزوّجتّ بأمير قرية كيساكيا. أميراً مفتول العضلات، وعيناه تميل للون الأخضر".

 

توقفّتُ عن الاستماع إليهم وهمّ يتحدثون ويتلددون حول جمال الأمير.

ولمّ أنشغلّ إلاّ بالصدمةِ التي هزْتّ كياني فبكيتُ بدون صوت، وعندما نظرتُ إلى حدائي الذي تقطعتّ جوانبه بعد أن زال عنه الصمّغ بكيتُ بحرقةً أكثر. حتى تناسيتُ نفسي وظهر صوت بكائي.

ولكنني تمالكّتُ نفسي ووضعتُ كف يداي على فمّي حتى يُبقي حزنه بالداخل ولا يُخرجه على هيئة صوت بالخارج.

استشعروا النِسوة أنهم سمعوا صوتً ما.

فظلوا يبحثون في المطبخ في كل مكان.

حتى اقتربتّ أحداهم لفتح الدولاب الذي أنا مختبأ فيه ولكنهم سمعوا صوت الطبول تُقرع عالياً في الطابق الثاني.

فنسوا أمر صوت المطبخ وفرّوا راكضين إلى الأعلى وهم يقولون:

 

" لقد خرجتّ الأميرةُ من غرفتها وبدأت مراسم الزواج".

 

حينها فتحتُ باب الدولاب وأنا في حيرةً من أمري، ونافدة المطبخ المفتوحة تعصف على وجّهي برياح باردة لم أشعر ببرودتها.

 

فنظرّتُ من الشُباك فوجدتُ سائق العربة لا يزال ينتظرني ويمسح على رأس حصانه. فقلت بيني وبين نفسي:

 

" لقد أتيتُ إلى هنا لأكتشف أن هناك بشر تحب رؤية المُحبّين كالسائق البسيط".

 

ثم نظرتُ إلى باب المطبخ حيث يكمن مالا أعرفه خلفه وقلتُ بغضب:

 

" وهناك من يحبّ أن يسحق من يحبه بدون شفقةً أو رحمة".

 

أصابتّني حالةً من الهذيان حتى ظللتُ أتحدث إلى الملاعق والصحون، ثم قلتُ في نفسي بعد أن ثار بُرّكاني المقدّس في جوفي:

 

" لن يحدث هذا الزواج قبل أن أُعلن حُبّي لحبيبتي إليزا ...أقصد زوجة الأمير.

وسأعلنّ حبّي لها أمام عيون الأشهاد.

فلو كان الموت ينتظرني من بعد ذلك فليكن موتً شريفاً من أجل الحب. فلمّ يعد هناك شيء أستحق العيش من أجله، فلو لم أعبّر عن حبي لها الأن فسأعيش في صدمات وكدمات نفسيةً تجعلني أتمنى الموت.

حسناً إذاً، لأمتّ الأن إذاً وننهي صفحاتُ حياتي المتعثرة".

 

خرجّتُ من باب المطبخ صاعداً إلى الأعلى حتى وجدّتُ نفسي في قاعة الزفاف التي يحضرها كِبار السادةِ والسادات.

 

فرأيتُ إليزا تمشي مع أميرها على بِساط أحمر، والحاضرين يقفون في صفوفاً حول البِساط ويرمون عليهم الورود.

 

أمّا الطبول والمعازف فقد جعلت الجميع في نشوةً ورقص، إلاّ أنا أشاهد المعازف وكأنها سُمًا للروح وقاتلةً للجسد.

لم أصدّق أنها المرةُ الأولي في حياتي التي لا أرقص فيها تحت أصوات الأنغام. فكيف أرقص إذا كانت حبيبتي ترقص مع غيري. 

 

هنا تمالكتُ نفسي وذهبّتُ مسرعاً لأقف في نهاية البِساط الأحمر، وخلّفي العرش الملكي وأمامي إليزا والأمير ينتظرون عبور البساط حتى يصلوا إلى عرشهم ليجلسوا فوقه إلى الأبد.

 

نظر إليّ الجميع باستغراب، وتوقفتّ الدفوف وانقطعتّ المُوسيقى وعمّ الصمت في المكان حتى أصبح وكأنه مقبرةً منّسية.

 

تمّ سمِعتُ صوت منادي ينادي قائلاً من وسط الزحام:

" منذ متى وعبيد القصر يتجرؤون على التمرّد على أسيادهم".

 

فقلتُ لهمّ بصوت عالي ودموع الحزن تتساقط من عيناي:

 

" بلّ أحرارً أتينا إلى هنا، ومن فيض حُريّتنا أخترنا طريق الحب.

أصابنا الجوع فأكلّنا منّ جلّدنا ولمّ نتجرأ على أكل لحّم أخوتنا. أصابنا العطش وأمامنا كأس ماء واحد فارتشفّنا منه جميعنا بالتساوي. لمّ نلمس الذهب ولا الألماس الذي هو يسكن فقط في هذا العالم، ولكننا لمِسّنا أرواحنا التي تسّكُن كِلا العالَمَيّن.

فالقليل من الحبّ يصّنع بداخلك جحيماً لتحرق الأنا، والكثير منه يصنع مِنك مُعلماً مُستنير. فتطوف العالم بأسره طائراً في سماء العوالم الصوفية كالملاك المُجنّح. فصدقّني يا جلالة الأمير. ذلك العالم أكبر من قصّرك، وأثقل من كنّزك، وأرقى من ذهبك، وأكثر فخامةً من رائحة عطرك الذي غسّلت به ثوبك قبل ليلة زفافك هذه ".

 

غضِبَ الأمير من قولي وأمر الجنود طالباً منهم وضعي في زنزانة القصر حيث تكمُنّ الوحوش.

فاقتربوا منّي وحاولوا تكبيلي، ولكنني صرختُ بصوتً عالي قائلاً لهم وهُمّ يضعون الأصفاد في مفاصل جسدي:

 

" أتركوني أفرغ غليان القيح من قلبي ثم بعدها سأذهبّ إلى زنزانتي بأقدامي هاتين. فهل لي بكلمةً مع الأميرة إليزا قبل أن أرحل إلى الجحيم وأترككم ترقصون في الجِنان".

 

فقال الأمير:

 

" ويحك! تطلب أن تُخاطب زوجتي الأميرة يا ذو الحذاء المُقطّع"

 

فقالت إليزا بكبرياء بعد أن شربتّ رشفةً من كأس نبيذ تمّ تخميره منذ أكثر من مئة عام:

 

" دعوه يقول ما عنده، ثم بعد ذلك أنقلوه إلى حيثما يستحق. فتارةً أرى في قوله حكمة، وثارةً أراه ضرباً من ضرب الجنون".

 

فتركني الجنود ووقفتُ على أقدامي أشاهد ألاف الوجوه تنظر إليّ، وعشرات ألاف الأذان تنتظر سماع ما سأقوله في تعجّبّ.

وقفتُ وأنا أمسح بقاي الدموع المتبقية في جفوني وقلت لهم بصوت مسموع:

 

" أعلم يا معشر السادةِ والسادات أن وقتُكمّ ضيق لسماع ما يقوله أمثالي من الحشرات. ولكنّ الشوّق يعّصرني والتعلّق يعذبني حرقًا بالحديد المُنّصر. وأعلم علم اليقين بأن قولي الذي سأقوله في الدقائق القادمة سيُعجّل من اقتراب دفّني ولكنّها التضحية من أجل العشق يا أيها السادة، فإنها تجعلنا نقتل أنفسنا بدون أن نشعر بسكرات الموت إطلاقاً".

 

ثم نظرّتُ إلى الأمير محاولاً كبّت الدموع في عيناي وقُلت له:

 

" أنت لا تختلف عنّي يا سيادة الأمير. فلطالما اعّتدتُ أنا أن أهرب من الحياة وأختبأ في عالم الخيال الذي يعرفه كل الشعراء.

ولطالما أنت اعتدت أن تهرب من الحياة لتختبئ بين أحجار الذهب وقِطع الألماس.

فلا فرق بين أشعاري الرخيصة ورداءك الثمين، فهما ملاجئ نلجأ لهما هرباً من الحياةً المجهولة حتى ولو كانت ملاجئنا مختلفةً في الشكل والهيئة.

ولا يختلف سقف بيتي الصغير على سقف قصرك الضخم إذا كان هدفهم الأساسي هو حبّس قطرات الأمطار حتّى لا تسقط على رؤوسنا ونحن نيام".

 

قاطعني الأمير وهو ينظر إليّ بتعجرف قائلا:

 

" لقد أعطينا أخر قطعة لحمً للشاعر الذي كان قبّلك.

فلو كانتّ نواياك منذ البداية تطّمح للحصول على بعض المال! فإننا سُنهديك إياها لترحل من هنا مُسرعاً قبّل أن أتخذّ فيك حُكّماً لا تُحمد عُقباه".

 

ضحك جميع من في قاعة زفاف القصر بشكلً موحدّ، وعمّ الهرج وقرعوا كؤوس النبيذ في بعضها.

باستثناء إليزا التي ظلّت صامته وتُحدّق في وجهي بتعابير لم أعرف معناها بعدّ.

 

ثم قالتّ إليزا بصوتً عالي:

 

" هدوء!"

فصمت الجميع مرةً أخرى ولمّ يتبقى إلى صوت الرياح العابر من النافدة. ثم قالتّ ليّ إليزا:

 

" قُلّ ما عندك، واختصر الكلام بقدر الإمكان. عسى أن تكون أنت الرسول الذي كنت أتوقع قدومه".

 

فاستجّمعتُ قوّتي مرةً أخرى وقُلت بصوتً عالي:

 

" لُطفاً بمن تعثرتّ بهم الطرق وحاولوا النهوض مراراَ وتكراراَ بعزّم وشجاعة.

لُطفاً بمن غرقوا في أنهار التعلق الممجدّ فاحتضارهم لا يقتلهمّ ولا يجعلهم أحياء، بلّ يجعلهم مُعلّقين في احتضار يدوم لمئات السنين بينما ظنّ الجميع أنهم قد ماتوا غرقاً.

أمّا أنا فقد احتضرّتُ ومتّ ثم عُدّت حياً، ثم مُتّ مرةً أخرى وعاد طيف روحي بلا جسداً يهّوي في نفس الحياة المتكررة.

فقد عرِفّتُ دهاليز الموت وعالم الجُثث، فلمّ أعُدّ أهاب الموت ولا الحياة فَهُمّ في قبضة يداي المُكبّلتين بالأصفاد.

فحدّقي يا إليزا في كفّ يداي الخشنتين حتّي تتمكني من رؤيةِ أسمكِ منقوش عليهم.

وضعي يداك على قلّبي واغمضي عيناكِ فسوف ترين روحكِ تسبح فيه وحدها في كل أطرافه.

أحلُمّ بكِ في صحّوي وسُباتي حتّى ظنّ أهلُ قرّيتي أنّ روح مجنون ليلى قدّ تقمّصتّ جسدي في هذا الزمن. ولكنّ روح ليلى ليستّ في جسدها السابق أيضاً. بل تقمّصتّ روحها جسد امرأةً أخرى كما أنني أنا بذاتي تقمّصت جسد رجلاً أخر غير جسد المجنون.

فقد أتى مجنونكِ إليكَ يا ليزا ليعيد المحاولة. فهلّ سينجح حُبّنا في هذه الحياة؟ أم أننا سننتظر حتى الحياةِ المُقبلة ونحاول مرةً أخرى؟ فكل ما أريد قوله الأن هو كلمةً أخيرة أُنهي بها حديثي الذي جئت من أجله حبّواً على رُكبتاي ويداي. فكلمتي لكِ هي! إنني أحبّكِ يا إليزا ... وأنتِ لمّ تشعري بحبي".

 

وقف الأمير وهو يعضّ أسنانه ثم قال:

 

" أتجرأ على مغازلة زوجتي في حضّرتي يا أبن بائعة القشّ"

 

 ثم رفع الأمير سبّابته أتجاهي وقال لحراسه:

 

" قيّدوه وأنتم تضربوه، ثم أسحبوه من أقدامه إلى زنزانة القصر، أمّا تعذيبه فستتكفّل به جلالتي".

 

تقدّم الحراسّ وقيدوني بالأصفاد. وعظامي تلقّت الضربات من كل جوانبها.

 

لكمَنِي أحدهم على شفتاي حتى نزفتّ منهما الدماء فتذوّقتّ طعّم دمي.

حاولّتُ النهوض ولكن ظهري تلقّي ضربةً بمطرقةً حديدة فأوقعتني تحت أقدام الحُراس.

 

بكتّ إليزا من بشاعة الموقف وحاولتّ التقدّم لإيقافهم، ولكنّ الأمير أوقفها من دراعها وقال لها بغضب:

 

" هل كلمات الصبي أثّرتّ في قلبك المُنكسر يا ضعيفة الرؤية".

 

ثم همس في أذنها وقال لها بصوت منخفض:

 

" قدّ أفسد أبن بائعة القش زفافي، وسرق جزءً من قلب أميرتي. ولكنني أعدك بإعادة ما سرقه منكِ في الحال.

فإنني نذرّتُ أن أقطع رأسه أمام جميع الحاضرين في هذه اللحظةِ النجسة. فأكسب هيبةً يُحسد عليها، ومن الجهة الأخرى أزرع الخوف في قلب الخدم فلا يُفكروا في التمرد عليّ يوماً ما".

 

قال هذا ووضع رأس السهم في إناء السُمّ ثم شدّه في القوس. وأغمض عينه اليُسرى وترك الأخرى مفتوحةً محاولاً بها تصويب السهّم في قلبي.

وإليزا تبّكي بين أدرع الحُرّاس بينما الأمير يحاول التصويب. وجميع الحاضرين ينظرون إلى المشهد برعب.

 

بدأ الأمير في العدّ من واحد إلى ثلاثة قبّل أن يرّمي سهمه في صدري بصوت عالي قائلاً:

 

" واحد ..... أثنين ......".

 

فجأةً سُمع صوتً قادم من بعيد يقول:

 

" توقفّ يا أيها أمير كيساكيا".

 

توقف الأمير ونظر خلفه ثم نظر الجميع معه. وكان الصوت قادماً من باب القصر الداخلي.

 

فكانتّ صاحبة الصوت امرأةً جميلةً تظهر عليها سِماتً ملكية. شعرها أسوداً طويل وعيناها كبيرتان واسعتان.

أنفاسها المتسارعة عكّرتّ عليها سهولة الحديث بسبب ركضها في الطرقات قبّل أن تصل إلى القصر.

وتُمسك في يداها منديلاً ممتلئ بالدماء. ولم يتعرّف أحد على هذه الامرأة باستثناء الأمير.

 

تقدّمتّ الامرأة وهي ترفع منديلها المُلطخ بالدماء إلى الأعلى وقالت:

 

" هل هذا الزفاف هو ما جعلك تتركني حبيسة القصّر أصارع مرضي بين جواريك الحِسان.

وتراني أسعلّ الدماء من جوفي فألوث به سريري وغرفتي ولا تُبالي.

ثم تكتفي بإعطائي بعض المناديل لأسعل فيها كالحية المسمومة في جُحرها ريثما تنتهي أنت من الرقص واللهو مع عروسك الجديدة.

فهل قلت لها يا زوجي الوفي أنك متزوج؟ أم أنّك خبأتّ ذلك عنها لأجل غير معلوم".

 

ثم اقتربت الامرأة من إليزا وقالت لها بصوت لا يفهم دهاليزه إلاّ النساء:

 

" حاولي ألّا تمرضي أو تنزف منكِ الدماء، فأنفه النتن يشّتمّ رائحة الموت قبل قدومه. فلن يلبث حينها يوماً واحداً إلّا وعثر لنفسه عن زوجةً بديلة.

فجهّزِي كفَنَك واشتري تابوتك قبّل رحيلك في أقرب وقت.

فمثل هذا النوع من الرجال لا يحضرون حتى في جنازات أزواجهم".

 

عمّ الصمّتُ في المكان. والأمير يبحث عن حجةً ليختبئ خلفها. وإليزا غارقة في صمّتها وعلامات الصدمةِ قدّ بدأت في الظهور على جسدها.

حاول الأمير الهربّ من مصيبته لينشغل بيّ ويُذهب عنه الأنظار. ثم قال:

 

" ارموا هذا الصبي المنحوس في الزنزانة، فمنذ قدومه إلى هنا غيّمتّ غيمةً سوداء في قصرنا".

 

فأخذوني الحراس إلى الزنزانة من أقدامي. وظهري يزحف على الأرض بينما رأسي يُحدّق في السقف.

 

كانت الطريق إلى الجحيم المُنتظر طويلة. ورأسي يرتطم بُرخام السلالم وهُمّ يجرونني بلا رحمةً أو شفقة. فقدّت الوعي ولمّ أعدّ أسمع شيء البتّة.

 

بعدها فتحتُ عيناي لأجد نفسي في الزنزانة.

ثم حدّقتُ في أرضها الخشنة، ونظرّتُ إلى الحشرات التي تتجول فيها بين زواياها.

لا يتواجد فيها مخّدع ولا فراش. يُضيئها القليل من الشموع. ويقف أمام أعمدتها الحديدية جندي يرتدي قبعةً مصنوعةً من الفولاذ المتين.

مرّت الساعات والساعات ولمّ يزرّني النوم. تارةً أحدّق في هذا الجدار، وتارةَ أحدّق في أخيه الذي يقابله. وتارةً أنظر إلى الجندي وأطلب منه رغيف خبزاً وماء ولكنه لا يُجبّ ولو بكلمةً واحدة وكأنه أصّم.

 

فجأةً سمِعتُ صوت أقدام تمشي على السلالم، وعندها وقف الجنّدي استعداداً وضرب التحية. 

 

فصوت الأقدام لمّ يكنّ إلاّ صوت خطواتِ حبيبتي أفروُديت تنزل برداءها الأبيض اللمّاع. حتى وصلتّ إلى الجندي ومدتّ له يداها الرطبة وقالتّ له:

 

" أعطني مفاتيح السجن وأرحل من هنا".

 

دخلتّ إليزا معي إلى السجّن وأغلقتّ الباب بالمفاتيح الثقيلة. ثم جلستّ بجانبي ولم تنطق ببنتّ شفه.

 

نظر كلانا إلا بعضنا البعض في صمتً مُطلق لا نعرف أسبابها. ثم قالتّ بصوت حنون:

" لمّ أكن أنوي الزواج من الأمير، ولكنّ جبروته وتهديداته أرغماني على ذلك. ووالدي من الجهةِ الأخرى كان صديقاً لوالد كيساكيا وتربطهم علاقاتً تجاريةً مُربحة.

بعدها قرر والدي التصدّق بجسدي إلى الأمير كيساكيا ليكسبّ ودّ أبيه وتدوم عشرتهم الغريبة التي أنا ضحيتها".

 

ثم ابتسمَتّ وقالت:

 

" كنت أنتظر انتهاء مراسم الزواج المقززة لأذهب بعدها إلى قصره الأخر المُجاور لهذا القصر. لأن في قصر والدي لا يسمحون لي بالخروج أبداً، اللهم إن كان أحدهم يرافقني.

وقدّ قبِلتُ الزواج من كيساكيا لكي أستطيع أن أُنفّد خُطّتي المدروسة.

وخطتي كانت أن أطلب منه التجوّل في زقاق المدينة وأدخل إلى أحد الدكاكين الصغيرة وأخرج من بابها الخلفي وأهرب بعيداً. فصاحبة ذلك الدُكّان تعرفني ولها علماً مُسبقاً بخطتي".

 

ثم أخّرَجتّ زجاجة النبيذ التي أحضرّتُها لها وكنتُ قد نسيّتُها في المطبخ أناداك. وشرِبتّ منها بعطش.

بعدها نظرتّ في عيناي بشفقة وقالت:

 

" أنت جميل المظهر حتّي لو كانت ثيابك باهته .... ولكن .... لا يمكنني أن أحبّك. فقلّبي مُعلّق برجل أخر لم أراه ولمّ يراني.

فإنني أعتذر منك طالبتاً من قلبك ألاّ يحزن. أوليس أنت القائل إننا أحرارً أتينا إلى هنا، ومن فيض حُريّتنا أخترنا طريق الحب؟ فاتركني أبحث عن طريقي أرجوك.

 

استغربتُ من قولها وصراحتها معي منذ لقائنا الأولً، ثم قلّتُ لها:

 

" جُرّحي عميق، ورفّضك لمداواته جعله ينّزف بشدّة".

 

ثم تركتّ الدموع تسقط من عيناي محاولاً نسيان ما سمعته من لسانها.

كان كعاصفةً هزّتّ الأساس الذي جعل بيت نفسي يستقيم.

فحاولتُ التقرّب منها ولو بالتحدث معها عن أي شيء تحبه. فتذكرتُ أنها قالتّ بأنها تحاول الهروب ولمّ أكنّ أعلم إلى أين.

 

فقلت لها محاولاً تغيير موضوع حديثنا الأول:

" إلى أين كنتِ تنوين الهروب يا إليزا بعد مغادرة قصر الأمير؟".

 

فقالت بعد أن أكملتّ النصف المتبقي من زجاجة النبيذ:

 

" سأذهب لأبحث عن حبيبي الذي لم تراه عيني.

حبيبي الذي لا أعرف حتّى أسمه بعدّ.  

كان كلما يحضُر الصباح أنهض من فراشي راقصة وأنشد أعذب الألحان وأنا في طريقي إلى شُرفتّ غرفتي.

فقد كان حبيبي المجهول يترك لي رسائل الغزل الناعمة. ويدّهن أوراق رسائله بماء الزهر المُقدس.

ألاف الرسائل كنت أتلقاها منه. وقد خبأتهم جميعهم في صندوق كبير في غرفتي. وقد حاولت مراسلته ولكن لم أكن أعرف المكان الذي يعيش فيه.

وكلما حاولتُ أمساك حمامته الزاجل لكي أضع في عنقها رسالتي لأرسلها له معها كانتّ تلك الحمامةُ تفرّ بعيداً عني ولا تتركني أمسكها.

فمنذ ذلك الحين وأنا غارقةً في حُبّ شخصاً لا أعرف هيئته ولا شكله".

 

ثم وضعتّ يداها بداخل فستانها وحدّقت في جوانب السجن وخارجه لتتأكد إن كان أحد يرى ما ستفعله أم لا.

ثم بعد ذلك أخّرجتّ من فستانها أحد الرسائل وقالتّ:

 

" هذه من أحد رسائل حبيبي المجهول، فقد خبأتها في فستاني حتى لا يراها أحدّ لأنها المُقربة إلى قلّبي. فدعني أقرأها عليك إن لم تُمانع أذناك عن الإصغاء".

 

ثم بدأت إليزا في قراءة الرسالة بصوتها. والرسالة كانت تقول:

 

" إلى حبيبتي التي أجّهل أسمها. إلى حبيبتي التي أطلقتُ عليها لقب أفرُوديت. أهّدي لكِ هذا الشعر الذي يقول:

 

"كانت ليلةً فيها صفاء ناصع

حين رأيتُها تمشي بتمايل في شارعً واسع

فمشيت مسرعاً لنورها الساطعّ

متحرياً مصدر هذا البريق المنير اللامعّ

وكانت عيناها شُعلةً وكأنها منارة

حتى كِدْتُ أن أخلِط بين نورها ونور الاستنارة

تاركةً في خطواتها عطراً مختلطاً بالياسمين والنوارة

 

ثم قاطعتُها وأكملتُ لها باقي الشعر قائلاً:

 

" متسبباً رائحته في حقد الناظرين والجارة

حتى أعادت لقلبي نبضه بعد أن كان صلباً كالحجارة"

 

فنظرتّ إليّ بتعجب ودهشة وبدأت يداها في الارتعاش وقالت:

 

" كيف ... كيف ... كيف عرِفت باقي القصيدة؟ هل أنت الذي ...."

 

قاطعتُها مجدداً وقلّتُ لها:

 

" نعم، أنه أنا يا أفروديت، أنه أنا يا ربّةَ الحب والجمال.

فقد ضربّتُ صدري عاهداً على نفسي بأن أراكِ ولو بعد حين. وها قدّ حققّتُ وعدي وعثرتُ عليك. وأنني ...".

 

قاطعتّني بقُبلةً على شفتاي. ثم عانقتّني وهي تبكي وكأنها طفلةً بريئةً مُدللة. ووضعتّ يداها الاثنين على خدود وجهي وحدّقتّ في وجهي بينما انشغلتُ أنا بالتحديق في عيناها الممتلئتان بدموع الحب والبهجة.

وضعتُ يداي على عيونها ومسحتُ دموعها جيداً. ولم تمرّ ثانيةً أخرى إلاّ وجدتُّ دموع عيناها بدأوا في السقوط من جديد. فضممّتُها إلى حضّني وقبضّتُها بين دراعي ووجها يلمس صدّري. ومن الشوق تمكنَتّ من رأيت قلّبي الذي يختبأ خلف صدّري وقالت:

 

" هل هذه أنا أسبح في قلبك الذي ينبض! منذ متى وأنا أطير في جوفك ولا أعلم عن هذا شيئاً".

 

ثم قلتُ لها وأنا مغمض عيناي غارقاً في حُضنها:

 

" وأنا أيضاً لم أعلم أنني كنتُ أسبح في قلبك طوال هذه المدة. فقد ظننّتُ أن رسائلي كانت لا تصل إليك أو أنكِ كنتِ تُهملينها. ولكن كلانا اليوم شاهدَ الشروق، فقد انتظرنا قدوم هذه الشمس منذ زمن بعيد".

وفجأةً ونحن نتبادل العناق سمِعنا صوت تصفيق من خارج السجن. فنظر كلانا نحو باب الزنزانة فإذا بنا نرى الأمير كيساكيا وعلى وجهه علامات الكبرياء والغضب والتعجرف.

 

وقال لنا بصوتً عالي:

" لقد كنّتُ أستمع لحديثكم المقزز منذ بدايته.

أمّا أنتِ يا أليزا فلا تنطبق عليه صفات الربّةِ أفروديت، فهل ربّةُ الحب والجمال تقّدِر على خيانة زوجها في يوم زفافهم؟".

 

ثم وضع سهّمينّ في قوسين مختلفين وقال بغطرسة:

 

" السهّم الأول سيذهب إلى قلب الصبي المتسوّل.

أماّ الثاني فسيقصد قلب الربَةِ أفروديت على ما اقترفته من ذنوب بحق خيانتها للحب".

 

ومجرد أن وضع السهم في القوس واستعدّ لرميه في قلّب إحدانا. فجأةً ظهرتّ من خلفه زوجته السابقة ورمته برمّح في ظهره فاخترقه حتى ظهر من صدره. ثم سقط صريعاً على الأرض متصارعاً مع أنفاسه الأخيرة.

 

وقالتّ له وهي تُمسك منديلها الممتلئ بالدماء وتنظر إليه ساقطاً بين أقدامها:

 

" وهذا الرُمّح الأخير وقد ذهب لتوّه وقصد قلّب الشيّطان الأكبر".

 

ثم نظرتّ إلينا زوجة الأمير السابقة بعد أن خرجّنا من باب السجن وقالتّ لنا بابتسامة:

 

طيروا يا طيور السماء في الأعالي مادامتّ أجسادكم لم تدّبلّ. واسرحوا في الأرض الواسعةُ أطرافها.

وأرقصوا فما الحياةُ إلاّ رقصاً ومرح. واستلقوا تحت ظلّ الأشجار وكلوا من ثمارها حتّى تمتلئ بطنكم بالطعام كما امتلأت قلوبكم بالحبّ".  

 

عانقت إليزا زوجت الأمير السابق لعدة دقائق وشكرتّها على مساعدتها.

ثم مسكّتُ بيدّ إليزي اليُمنى وفررنا هاربين من القصر كما تفرّ العصافير من أقفاصها.

فدخلنا إلى المطبخ ومن هناك هربّنا من حفرة الجدار إلى الشارع حيث الهواء الطلّق. فاستنّشقنا نسيم الرياح في جوّفنا فغدّت الرياح أرواحنا بما لد وطاب.

 

أكملّنا الركض حتى وصلتُ إلى شجرةً خارج القصر وقلّتُ مازحاً بصوتً عالي:

 

" أستيقظ يا سائق العربة فلقد وصلنا، كنتُ أناديك منذ دقيقة ولكنّ نومك ثقيل".

 

فاستيقظ سائق العربة وقال ليّ مازحاً هو بدوره:

 

" ألمّ أقلّ لك أترك الأحلام وأذهب حيثما يتواجد الورد. فرائحة الوردة في الحقيقة أجمل من رائحتها في الأحلام!".

 

 

 

فقلت له ونحن نضحك بصوتً عالي:

 

"وها قدّ شممتُ رائحة الوردة في عالم الحقيقة، بلّ واحضرتُها معي ماسكاً إياها في يداي"

 

ثم القى سائق العربة التحية على إليزا، وأعانها من يداها بطريقةً ملكية حتّى تركب العربة. ثم صعدنا جميعنا وجلد سائق العربة الخيول مجدداً فذهبوا بنا في اتجاه القمر المُكتمل.

 

شعرتّ إليزا بالنوم في تلك الليلة الباردة فضممّتُها إلى صدّري وشاهدّنا القمر المُكتمل من نافدةِ العربة وهي تمشي بسرعة. حتّى أخذنا النوم إلى عالمه.

 

ثم أستيقظّنا في صباح اليوم الثاني ولا تزال العربةُ تمّشي في طريقها. وقال سائق العربة مازحاً:

 

" صباح الخير يا طيور الجنان. هل أذهب بكم الأن إلى أحد القصور أم إلى أحد البيوت الرخيصة"

 

فقالت له إليزا مازحةً أيضاً:

 

" أذهب بنا حيثما تشاء، فالأرض واسعة والقصور ضيّقة".

 

فضحك الجميع ضحكةً موحّدةً ممتلئة بالبهجةِ الصباحية، وظلّ سائق العربة يحّكي إلى إليزا قصة وصولي إليها لما تحويه من أثار المغامرات والتشويق. إلى أن وصلنا إلى تلك المدينةِ البعيدة جداً وعِشنا فيها حياةً جميلةً وهانئة إلى أخر العمر.

 

قيامة القيامة في الشرق

 

هلّ تِلك التي تنتظر ارتطام حِجارتك الصغيرة الطائرة على نافذتها فتفزع لتفتحُها بأنامِلها لتُشاهدك مرتجفاً من الشوق واللهفة حاملاً تلك القصيدة التي أعانتّك ربّة الحب على كتابتها لها، هل تزال موجودة؟

 

هل يزالوا أصدقاء الدرّب البسطاء يرفعون أقدامك على أكتافهم حتّى تصلّ لأميرتك التي تجلس على حافّة شُرفتها فتظفر بقُبّلةً سريعة منها قبّل أن يستيقظ أعداء الحب فيحرقونكم حرقاً في فُرّن طهارتهم الزائفة؟

 

هلّ مازلّتم تأكلون وتشربون من صحّنً وكأس واحداً أم فرّقتكم المقاعد ووقفتّ بينكم الطاولة؟

 

أليس الكبّت هو الشعور بالعطش القاتل بينما بئر حديقتك ممتلئ بالماء الزُلال؟

 

أوليس الكفّرُ هو قتّل الحبّ واللذّة البريئين وتقديمهم كقربان للوهم الذي في عقّلك؟

 

أوليس الطهارةُ والتزمّت هما ما تتقيأ منهما أرواحنا في صفّ واحد مع ربّة الحبّ وشمس الجمال في كلّ صبّح وعشيّة؟

 

أوليس غياب العلّم الحقيقي، واستعباد بنات حواء، وتراكم أوساخ شوارعكم المختلط بالغبار النتنّ الذي يحّمل معه رائحة زيوت الناقلات، ونباتات الطبيعة الميّتة اليابسة التي تمشون فوقها كالأنعام بلا حسّ أو ذوق أو سقي. أليس هذا هو تجسيداً لطهارتكم التي تدّعون أنها تُنجي من الشرير وتنقل إلى الجنان الكاذبة؟ ألم تُدركوا أن الشرير هو الطيّب وأنّ جنانكم هي الجحيم؟

 

أولم يرى الشرقي أن الشمس لمّ تُشرق من مشرقه يوماً؟

أولم ترى الشرّقية أن مُخلّصها هو نفسه سجّانُها؟

أولم يطرد القلب دماغ الخداع المُختبئ في قمّة رأس جسده؟

 

ألم يحن موعد الاحتفال بذكرى موّت الأجداد والأسلاف؟ ألم يحنّ موعد لقاءنا بالحق الذي ينتظر لقاءنا في جوهر ذواتنا؟

 

ولكنّ حذاري من رفع صليب الحبّ في وجه سُكّان الخِيم هؤلاء، لأنهم سيصّلِبونك عليه فوق صحرائهم القاحلة.

ليس لأنهم أقوى … بلّ بسبب عددهم الناتج من لعبة الانجاب السنوي التي يلعبونها، والتي يرافقها الفقّر المُطقع الذي يحمل بين يداه كلّ صور الجهل الشعبي والتخلّف الذوقي والحواري الناتج من البُعد عن الدبلوماسية.

 


من وحي الموسيقى الإلهية

 

 

تعالوا أسّقي ريقكمّ بعد أن أصابكم الظمأ وأنتم في عقر الينابيع الواسعة

فالحقّ أقول لكم إنّ السفر الذي يصاحبه العطش والجوع لا خير في سلّك ولو شبّراً واحدًا فيه

فخيراً لكمّ أن تشربوا من دمائكم على أن تنتظروا هطول قطرات الغيث في قلّب حرارة الصيف الحارقة

وخيراً لكم أن تأكلوا جلّدكم على أن تنتظروا مائدةً دسِمة تسقط لكم من السماء

وخيراً لكم أن تُنظّفوا قلبكم بشيء من نبيذ شلّالات الحب المُتهاطلة على أن تُحاولوا غسّله بماء الطهارة والفضيلة المُغبّرتان بالأوساخ

وخيراً لكم أن تبحثوا عن ذاتكم الآن على أنّ تدعوا لها بأن تجد نفسها يومًا ما … وخيراً لك أن تُحب السماء بلا سبب عسى أن تُدرك أنها فضاء من الحب وليستّ موطناً للتسول أيها الطاهر الأعمى …

 

 

هلاوس الغدّ المُنتظر

 

ما بالكمّ تنتظرون هطول الثلوج في الصحاري وقلوبكمّ كانتّ قدّ تجمّدتّ من شدّة الانتظار بينما رمالكم الحارّة لا تزال تأكل أنامل أقدامكم وأنتم حُفاة

أوليس العطش هو ما يستدّعي مُستعجلاً روح الإرتواء فتشرب في لحظتك هذه لا في غدِكّ ! …

 

ذلك الغدّ … لا تراه يدّخِرُ لرجل في الخمسين من عمره يدفن أمواله تحت رمال خيّمته خشّية أصابته بالشيخوخة القريبة أو الفقر المفاجئ

 

ذلك الغدّ … لا تراه إلاّ لعنةً سُطِرتّ على جبين الحالمين بالأمل في حياة لا تعترف بالآمال والتفاؤل

 

ذلك الغدّ … هو ما يحجُب رُؤية الحبّلة عن مولودها الذي لتَوّه سقط من بين فخذيها وهو يبّكي مُناجياً إيّاها ولو برشفةً من حليب ثديها بينما الأم غائبةً عن صراخه وتحلم برؤيته عظيم الشأن في ذلك الغدّ الذي يحمل لعنات الدهر وخيبات الآمل المألوفة

 

فخيراً لك أنّ تثّمُل من أفضل أنواع الخمّر في لحظتك هذه على أن تكون شارد الذهن في خمّارة الغدّ التي تُقدّم أردأ الأفيونات وأرخص أنواع النبيذ

 

ذلك الغدّ … هو دولة الأمل التي يهاجر لها كل من لا أمل فيه البتّة.

 

رياح نسائية غير مُتوقعة

 

آلِهةً للأرض المُعشّبة … ربّةً للخصوبة … موّلاةً في المُوالاة … تُغلِق عيونها أثناء الضحك فينغلِق في ذات الناظِر فيها ألف باب من أبواب الحزن … لا أذكر إلاّ القليل من حديثها بسبب إنهماك بصري في التحديق في ملامحها الإلهية

 

قالتّ: "هل فهِمت ما أقصده من كلامي لك"؟

 

قلّت: " نعم لقد فهِمتّ … فهِمت نوع النشوة التي تُصيبني عندما تُحركين يداكِ بأناقة وأنتِ تتحدثين فيما لم أُركز فيه البتّة … فهِمت اهتزاز صوتك الذي يجعل الطواويس المُلونة تطوف حوّلة لأيام بدون الشعور بالدُوار والتعب … فهِمت أن أستمتع في خيالي الإلهي الذي أوجدكِ في أبعاده العميقة في صُلّب ذاتي … فاتخيلُكِ مسجونةً في قلعة الشرير وتُنادين بإسمي لإنقاذك، وبعدها آتي إليك حاملاً في يداي صليب العدّل وسيف الحقّ والنصر، وعند وصولي لباب قلعته أحاول التمايل بحصاني وأُمسك رُمّحي وافتح ردائي لتضربه الرياح فيتطاير في الهواء فيزيد للحضور هيبة وألوهية. ليس هيبةً لإخافة الشرير بلّ من أجل إبهارك وخطّف أنظاركِ الفذّة عسى أن أتمكنّ يوماً من سرقة روحكِ إلى الأبد من إله الموت … فهذه غريزةً أوجدها الحق فينا فعبثاً يحاول الشرير لمّس حبيبات الآلهة من البشر.

 

- قالتّ: أحبك … أحبك أكثر من الواقع والخيال.

 

- قلتّ: لولاكِ لما كان لواقعي وخيالي معنى أتفاخر به أمام أقراني من الآلهات العِظام.

 

من مُذكّرات باريس

 

مرّ على عام 1999 الكثير من الوقت … ولا يزال أنفي يشّتم رائحة الحضانة "الماتيرنيل" في حي "لاديفونس" حيث كنّت ألعب مع الأطفال … كنتُ دائماً اختبأ خلف أستاذتي عندما يُضايقني زميل الطفولة … كنتُ أُمّسك حَمّالات ثيابي وأنفُخ صدّري وأرفع صوتي عندما تمرّ من جانبي منّ كنتُ أُحبها في طفولتي أناداك لأُلفِتّ انتباهها … كنتُ أركض محاربً الثلوج الباردة إلى بابا نويل وأُعانقه، منتظراً منه أن يأخذني معه في عربته الطائرة التي تقُودها الغزّلان … كنتُ احب التحديق في صورة موناليزا تارةً من يمين الإيطار، وتارةً من يسار الإيطار وأقول: "لماذا تُحذقّ فيّ هذه المرأة من كل الزوايا التي أنظر منهما إليها" … أذكر بكاء العُشّاق في محطّات القطار حينما يرفع القطار أحدهم لينقله بعيدًا بينما يترك الأخر يركض خلفه في المحطّة بجانب السكّة والدموع تتطاير من المُقلتين وهما يقولان لبعضهم "جوتيم"…

ذلك زمن كان فيه الأدب والفنّ في عزّ شبابه في أرض الرومنسية باريس

لا تزال أصابعي تحاول أن تُمّسك هاتفي لتحجز تذكرة الطيران التي ستذهب بي إلى الماضي الباريسي … نعم إنها تذكرة ذهاب إلى الماضي بالجسد لا بالعقل … تذّكرة ذهاب ليستّ من أجل السياحة في شارع "الشانزلزيه" … ولا حتّى الإقامة مرّةً أخرى في حي لاديفونس. بلّ ستكون رحلة صلاةً توصلني إلى بيتي القديم الذي مرّ عليه حوالي ثلاثة وعشرون عام. ومن ثُم أكمل صلاة الحبّ بداخل جدّران حضانتي وأبكي بكاء الحبّ النابع من الألوهية … حيث أشُمّ عطّرها فيزداد خشوعي وبكائي … أمّا حديقتُها التي سوف تطأُها أقدامي فإنها ستَكون المكان الذي سيشّتد فيه بكائي بحرّقه شديدة مُجمرة… حيث يمّسح الكوّن دمعتي الساقطة بينما أنا أرّدِفّها بدمعةً أخرى سائلة … حيث لا أحداً حينها سيكون معي البتّة في هذه الخلّوة المقدسة إلاّ الكون والربّة أفروديت وبابا نويل مع غزّلانه الطائرة… تلك أياماً كانتّ تنزل فيهم الآلهة إلى الأرض … ذلك زمن كان فيه الأدب والفنّ في عزّ شبابه في أرض الرومنسية باريس …

 

دعيني أسافر بكِ إلى عالمي

 

إقتربي يا أميرتي من أبواب اللذّة فقد أذِنّتُ لكِ … إنزعي يا مولاتي فُستان البلاط المُشعّ فإنّي أريدك عاريةً بلا أقمشةً ثقيلة تحّملها أكتافك … واحضري معكِ زجاجة نبيذ عتيقة فسفرنا الداخلي والخارجي قد يستغرق ساعة أو ساعتين … فلا أحدًا غيرنا في هذا البيت الخشبي غير شلالات الطبيعة المُقدّسة التي تُسلّم عليكِ من خارج تلك الشُرّفة …  إقتربي بمهّل فإنّي نويّتُ رفعكِ من خُصّركِ العريض بيداي وأُعلّقكِ على الجدار في عناق عميق … ثم أقتحِمّ شَفَتيّكِ المطّلية بأحمر الشفاه حتّى أتذوق طعّمه المُختلط بنكهة التوت اللذيذ … أمّا جلّد بدني سيلتصق بجلّد بدنك كالتصاق الروح بالجسد فلنّ ينزع التصاقهم المُقدّس إلاّ الموت الذي يُفرق الارواح عن الأجساد … أغمضي عينيكِ في هذه القُبّلة فإنّي راحلاً بكِ إلى عالمي … عالَمّ السكاكر والحلوى … عالم العناق والنشوة والانتشاء … عالمّ ظاهره رعشةً خارجية وباطنه لذّةً أبدية

 

-       قالت: " ولكنّ … الخوف يا مولاي … الخوف ينتابُني … الخوف من اللذّة والنشوة … أرغب بشدّة في العودة إلى إدماني لمُعاداة الطبيعة، أشعر بالرغبة في أغلاق ينابيع هذه الشلالات الجميلة بأحجار الكبّت القبيح، أرغب في كسّر كؤس النبيذ لأشعر أن السماء تصفقّ ليّ على فعّلي رغم معرفتي أنّ عقلي هو الذي يُصفق لجهلي".

 

-       قلّت: " إذا كان هذا حالك، فخيراً لكِ أن تمّشي على الأرض حبّواً بركبتيّكِ على أن تُحاولي الطيران معي في السماء. وأولى لكِ أن تضعي الحطبّ في المِحّرقة التي تتعذب فيها روحكِ على أن تكوني فلّذةً من الكون والوجود".

 

ونحن في صلّب العناق ونشوة التقبيل بدء جسدُها يرتعش، وعيناها إنقلبتّ فلا يظهر منهما إلاّ البياض. 

ثم قالتّ مع ابتسامةً غير مألوفةً لها كانتّ قد رُسمتّ على شفتيها:

- " آه … أشعر بشيء مقدس يحدث بداخلي … أشعر بنشوةً ما تحاول الظهور … آه

 

-       قلّت: " إنها لحظةً سماوية تعيشها قِلّةً من النساء اللواتي احتضنوا أجساد رجالاً بلا روح … اصرخي مع أهتزازك بأعلى صوتك فقد تسمَعُكِ ربّة الحب والجمال فتتلبّس جسدكِ إلى الأبد … ففي مثل هذه الحالات النادرة يولد متنور ومتنورة مرّةً كلّ ثلاثة آلاف عام.

 

مرّتّ بضعة ثواني… سكنتّ رعّشتُها وأغمضتّ أعينها … أصبحتّ كالجُثة الهامدة التي تخلّصتّ من أعباء سنوات من الحركة الجسدية والمقاومة النفسية … وضعتُ جسدها على غيّمةً بيضاء رطبة في السماء … ومِن ثمّ بدأتُ أعزف لها مع ملائكة الأرواح أجمل الألحان بالناي تارةً، وأبارك روحها التي تخلّصتّ من إدمانها القديم تارةً أُخرى …

 

شيء من خريطة الطريق

 

لن تعبروا الطريق إلى نشوة الاستنارة إلاّ بعد اللقاء بوحوش الطريق المُختبئة بين أشّجاره.

 

أول الوحوش، هو الشعور بالنشوة الزائفة في أول خطوات الطريق، حيث تتبرّك بشمس تنويرك، ولن تعلمّ أن تلك الشمّس ما هي إلاّ شمعةً تُضيء بين جريان الرياح التي ستُطفيها تيّاراتها قبل أن يصيح الديّك في عزّ الشروق.

 

ثاني الوحوش، هو الملل الذي سينقلك إلى مقصلة الشعور بغياب المعنى والمعاني في جحيم وجودك، حيث يرمي مُعلّمك الأحطاب في جحيمك حتّى يزداد حريقها حريقًا إلى أن تُشّوى أنت فيها وتفّنى وهو يتلذذ بصراخ آناك التي سيختفي جزء منها بعد حين.

 

يجب أن تعلم … أنه تنتظرك الكثير من الوحوش في هذا الطريق الطويل ذو السلّك الرفيع والخطّ الرقيق والعلّم العتيق والتجريب الدقيق.

 

أيها التلاميذ السانياسن الأعزاء … ودّعوا بعضكم البعض بعناق عميق قبّل أن تعطوني يداكم لأذهب بكم سويًا إلى الطريق كمجموعة تأنسون بعضكم البعض، تعانقوا جيدًا لأنكم ستضيعون في دهاليز أدغال الطريق، حيث كُلاً سوف يُضَيّع خليله وحبيبه وصديقه من يداه في براري العبور وأدغال المرور. ولنّ تبقى إلاّ أنت بمفردك تسلك السَلّك الطويل في هذا الظلام الممتلئ بالوحوش القادمة.

أمّا أنا فسوف أطير بعيدًا في نهاية الطريق أنتظر الواصلين ممنّ تجاوزوا الإمتحان وبلغوا التنوير حيث يهتفوا قائلين: "لقد وصلنا وعبرنا". 

فمن بين مليون سالكّ للطريق، يصل عشرةً فقط لنهايته.

 

موسم سقوط الألواح من السماء

 

 

لسّتُ أُحدثكم من لسان غارقًا في بحر لُعابه ويشّتهي أن يُنشّف أطرافه بالتكلم … ولا أُحدثكم من حُنّجرةً تهوى الحديث لأنها ملّتّ الصمّت الطويل … بلّ أناديكم بلا صوّت أو إشارةً عسى أن تسمعوا صوت ندائي الصامت بدون أن تستخدموا أذانكم.

فها قدّ شُدّ حبّل السفر على عُنق الفَرَس المُرشد للطريق، وها قدّ بلّلّ لُعابكم المُتعطش للحقيقة كلّ أثار خطواته على العُشب … ولكنّ هيهات أن يُحلّق بكم حصان الحقّ وقد كنتم كسرّتم جناحيه في أيام الغفلة … وهيهات أن تَسِدّوا جوعكم من ثمار شجرةً يابسة لمّ تكونوا من سُقاتِها بالأمس … فالحق أقول لكم أنّ بعض الطُرق سرابً يتّبعه أهل الطقّس والحفّظ والشعيرة. فهيهات أن تسّموا وتطفوا فوق بحار طريق الحقيقة وأنت تحّمل بين يداك أحجار أسلافك الثقيلة … ففي أزمانهم كانتّ حكمة اليقظة ونقيضُها، وفي أزماننا تتواجد التبعية العمياء وعُبّادُها … إذبح كبّش أُضحِيتك وكُلّ من لحمه ولكن لا تنّسى أن تهمس في أُذنه قائل له أن الهموم تذبحك وإن ديدان الأرض ستأكل من لحمك كما تأكل أنت الآن من لحمه

كُلّ مُعلِمّ ضالّ إن طلب منك إتّباعه … وكلّ حقيقةً كاذبة إن طلَبتّ منك أن تُؤمن بها قبّل أن تُظهر لك مفاتنها وآفاتها … وكلّ ناطقًا بالحقيقة هو أبكمّ يدّعيها … وكُل سامعًا بها هو أصمّ يشّتهيها … وكلّ صامتً بها هو متنورًا يحّتويها.

 

الطريق إلى الطريق

 

 

إحملوا شموع الحق يا مُريّديّ النور، ولكن حذاري من تِلكم اللواتي لا فتائل في رأسِهنّ ... ولّتتيهوا في ظلام النفس عسى أن تُدركوا أن ظلامها هو موطن الشُعلةِ والفتائل إن كنتم للحقيقة من المُبصرين ... إنحنوا واسجدوا أو سبّحوا ولكن ليكنّ تسبيحكم في الحمّد وليس الطلب، وليكن سجودكم عن رضى وطيب نفس لا رغبةً في مُراد أو لدفع ضُرّ ... وإن شئت أن تعبد شيئاً فاعّبُده، ولكنّ لا تجعل معبودك رُمحًا تُصيب به قلوب الرُعاة أو تُخيف به أفلاذ أكبادهم... واحذروا من دُعاة السلام والحبّ فإنهم أول من يضربون بطبول الحرب ويزرعون بذور الكرّه في مُضغة القلب إن كنتم للخبايا من الشاهدين... ولتكن صلاتكم صِلةً للعبور من النفس إلى الذات في رحلة الأبدان القصيرة إن كنتم حقًا من المُصلّين... فالحق أقول لكم إن العبادة والعرفان لا يلتقيان وكأنهما خطّان مُستقيمان يسيران في طرق مختلفة وإن ظهروا أنهم جيران، فإنهما على إنفرادًا يقفان فوق مكيالين يشدّهم ميزان الحقيقة الذي لم يُساوى أحدهم مع الأخر بحكم الوزن والصلابة المختلفة لكل منهما، وإن كان جوهرهما واحد في وحدة هذا الوجود... فإن الحق يكمن في الصمت والخرَسّ، وكل ما هو مسموع ومقروء يظل زائل حتّى وإن قالوا لكم قُدّاسكم أنه أزلي. فيُطالبوكم بالإستماع لوعظهم وضجيجهم وذلك حتّى يغيب عن مسامعك صوت الصمّت الذي يحررك منهم.

فالحق شيء، وقُدّاسكم ومعتقداتكم شيء أخر إن كنتم بعين جبينكم من المُحدّقين.

 

رسالةً من منازل الماضي

 

أتتّ الساعة الرابعة والنصف …  وطيفُ شمس العشية يعّبُر من نافذةِ غُرفتنا … جدّتي تُخيّط ثوبً بالإبرة والخيّط … الأطفال يأكلون خُبزاً مغّموساً في كوب شايً أخضر … وتغريد البُلّبل فريد الأطّرش يُزقزق من مذياعٍ قديم … رياح الأُلوهية السريعة تُحرك أخشاب نافذتنا القديمة، فتارةً تفتحها وتارةً تُغلِقُها … أوراق القدّيس جبران خليل جبران مُتبعثِرة على مكّتبي … وأقوال راهب الفكّر ميخائيل نُعيمة مرّميةً من فوق ترابيزتي المصنوعة من خشب البلّوط … النشّوة الإلهية تتطاير كالشظايا في فراغات الغرفة … والربّةُ أفرُوديت ترقص رقصة الحب والجمال … أمّا القلم فمُشتاق لأصابع أُدباء ذلك العصر الذهبي الذي لنّ يعود ….  هذا منزل مُقدس من منازل الماضي الذهبي.

 

الشيطان في قبّوي

 

- من الذي يطرق الباب في منتصف الليل؟

- إفتح الباب … وستعرف من الطارق

 

قُمّتُ وفتحتُ الباب وقلتُ بترحيب:

 

"أهلاً وسهلاً بالزائر لقبّوي … أهلاً وسهلاً بالملاك الساقط من السماء … فقد جهّزوا خادمات الجنّ طاولتنا الدبلوماسية المُزخرفة بأجود أنواع النبيذ وأشّهى أنواع الطعام … أنظر … هذه قِطع السَلمُون المُدخّن مع حبّات الأرز الأسمر المرشوش ببعض توابل الحبّ المُقدس الذي لا يعرفه البشر. وهذا طبقّ البايلا الأسباني وبجانبه صحّن به شيئاً من فاكهة شجرة المعرفة وشيئاً من ثمار شجرة الخير والشر.

 

قال الشيطان: "يتعوّد الإنسان من شروري متجاهلاً أنه هو الشر بعينه ورأسه.

ويتعوّدُ من سمومي قبل أن يأكل من صحّنه، مُتناسياً أن السُم قدّ أتاه في صحّنه من بني جنّسه الذين وضعوه له

قبل حتّى حضوري.

فلم أرى جنّيّاً يكره جنّيّاً ولكنّي رأيت إنسيّاً يظلم ويكره إنسيّاً. لمّ نُفضّل رجالنا عن نساءنا ولكنّا البشر فظّلوا جنساً على الأخر. ولهذا كُرّمّنا عنهم وسكنّا في عالم الروح وتركنا عالم المادة الزائف للإنس والمواشي ليسكنوا فيه بعيدًا عنّا.

وتطور وعّينا فأصبحنا نراهم من حيث لا يروننا،

ونغفر لجهلهم في كل مرةً يشتموننا فيها ظنّاً منهم أننا نحن السبب في حماقاتهم التي يرتكبونها بأياديهم.

نحن طُردنا من الجنّة إلى عالم الأرواح،

وهُم طُردوا من الجنّة إلى سجّن الأرض والأبدان.

حظينا بالأبدية حيث نعيش بلا أجساد،

وهُم حظوا بأجساد تُصافحها الأمراض والشيخوخة ويُرحب بها الموت في النهاية.

نحن ال…………..".

 

ترن … ترن … ترن

 

أيقظني صوّت المُنبه مع الساعة 4:00 صباحاً وجسدي يتصبب عرقاً من هذا الحلم الغريب. وقلتُ بيني وبين نفسي: "هل أتعوّد من الشيطان من هذا الكابوس؟ أمّ أتعوّد من نفسي ومنّ نفوس بني جنّسي؟"

 

مقال من السماء

 

لما أطلُب الرحمة، والرأفةُ مُسّتوطنة في قلبي؟ لما أُصلّي في طوب المباني والمعابد، وجسدي معّبدي؟ لما أتسوّل من السماء، وروحي سمائي؟ لما أشتكي الجوع ريثما الوليمةُ في فكّري؟ فلما تُخبأ أحجارك النفيسة عن المُتعطشين لبريقها؟ وأنت تعلم أنّ العِطر الفوّاح على ثوبك يشُمّه الأخر أكثر منك أنت الذي إعتدّت على شمّه.

فطوبى لك يا من لا تبحث عن الطوبى. وسعادةً تغمرك يا من لا تهوى البحث عن السعادة. وسلاماً لك يا منّ لا تدّعي السلام لإستدراج البُسطاء. وحذاري من إنكار سوادك فعسى أن تُدرك أن في إدراكك لسوادك نور خلف نور. فخلف طبيعة تعاستك نبيذاً حامض المذاق ولكنّه طيّب الشعور. فلولا نشوة مذاق العنب الأحمر المُتخمّر لما كان للعنب الطبيعي الحلّو مجّداً وجاهاً.

 

شيء من الرؤية

 

تُبّ إلى محيط الحُب يا منّ أفّرطّتَ في الشُرب من كأس العلّم الذي جعلك وحيداً بين الحشود. وتوبوا يا حشود الأرض إلى الحُبّ حتّى ينّزع من أياديكم سيوف الجهل باللّين. واخرُجّنا يا بنات ألِهات الحُبّ والجمال من بين جدران المطبخ المُزيّت وادخلوا درّب البُستان الأنثوي الذي لا يحدّه حدّاً ولا جدار. وكُفّوا يا رجال الجنّ الآدمي عن إمتطاء خيول التقاليد التي تخدم ذكورتكم وتُخرّب جِنان الآلهة أفروديت. فكمّ عدد الرجال الذين سجدوا للحب المُقدس واشتَمّوا عِطّره في سجودهم الطويل؟ وكمّ عدد النسّوة اللواتي كسّروا صحون العبودية ورمّمُوا زجاجات ذواتهنّ المُحطّمة؟

ألم يحن موعد التقيؤ بعد الأكل من شجرة المعرفة العقّلية التي تناولها أسلافنا؟ ألمّ يحن موعد العودة إلى السماء السابعة التي في جوهرنا المفقود؟ ألمّ يحن موعد الخروج من جحيم العقل السُفلي إلى جنّة الوعي الأعلى؟ فاسلكوا صِراط الحقيقة وحذاري منّ أن تسقطوا في جهنم الأنا التي تقبع أسفل صراطكم المقدس. فجنان الروح تنتظركم بشوق ولهفة في الجانب الأخر، وثِمار الجوهر الطازجة مُشتاقةً لإستشعار أنامل أياديكم الرطّبة عليها.

 

 

 

 

( جميع أقوال )

 

******* نضال الهمالي *******


·      إذا أردّت أن تبحث عن المُعلّم المتنور الحقيقي، فابحث عمّنّ يراه المجتمع غريبًا، وتُكفّره الأديان، ويستهزء من فكّره الإلحاد.



 

·      من رشف القليل من النبيذ الأحمر وجد الحب، من سمِع الموسيقى الروحية وجد النشوة، من صمت وجد سكينة العقل، من تأمل وجد ذاته الإله، ومنّ إشّتد تأمله فاسّتنار أصبح ذات الإله.

 

·      المعرفة والثقافة هُما جمّع المعلومات، والحكمة هي رمّيهم جميعًا.

 

·      لنّ تحلّ عليك السعادة والغبطة، إلّا بعد نحّر عُنق العقل بدل الأُضحية.

 

·      لا أعرف أي شيء، لأنني لا شيء يسكن في شيء مؤقتّ.

 

·      الذهاب إلى الطريق ليس مثل دخوله، فكل الطُرق تُؤدي إلى روما، ولكنّ روما تطلب دخولها بالتأشيرة.

 

·      أنا أقّرأ الكُتب فقط من أجل الترفيه، واستمع للصمّت لمللي من الأصوات، وأسّبح ليبّتلّ جسدي لا ذاتي. وأُحبّ لأن الحبّ هو كل ما أملك.

 

·      الثري الذي لا يتعلق بثرائه، والمُحب الذي لا يتعلق بحبيبته. هو ما أطلق عليه لقب الإنسان اللورد.

 

·      عشّ ثريًا ولكن تقبّل الفقر إذا حلّ، كنّ فقيرًا ولكن لا تطغي بالثراء إن زارك. حينها تُصبح فلّذةً من قلب الوجود.

 

·      كنّ قويًا وثريًا وحكيمًا، ولكن حذاري من تفضيل بعضهم على بعض. ولا تسقط إذا خسِرت أحداهم أو بعضهم في تجربة الجسد.

 

·      كلّنا نأكل ونمشى بفضل تُربةً أُمّنا الأرض، فخيرًا لك أن تسّجُد لها قبل أن تُفكر في رمي سلاح نووي عليها. فغضبك اليوم، سيتسبب في جوعك في الغدّ.

 

·      نظّف جسدك وجمّله بالمساحيق، ولكنّ لا تنسى أنك خادمه المُطيع ما دُمت حيًا.

 

·      عشّ ولا تحاول أن تعيش، حينها تتعرف على كنّز الأسرار.

 

·      لا تبحث عن المجّان، فلولا زفيرك لما أخذّت شهيقك.

 

·      لا يرى المتنور بعيون الرأس الظاهرة، بلّ يرى من خلال العين الصوفية، العين التي ترى كلّ شيء.

 

·      استمع إلى قلبك بهدوء، ولا شيء غير القلب، حتى يأخذك الهدوء إلى سماع صوت دقات قلبك، لتعرج بعدها إلى الصمت المطلق الذي لا صوت بعده، أنه الصمت الاخرس، التي تسبح فيه الذات بمفردها كالحوت الضخم الذي يسبح في منتصف المحيط وحيداً. 

 حينها سيختفي الجسد لأنك أنت الذات حينها ولا شيء سواها، فيضل الجسد كالجسم الميت الذي لا حياة فيه، ولكن باطنه مفعم بالحياة، كالحديقة المتواجدة في منتصف مدينةً صاخبه، ولكن داخلها البساتين وزهور اللوتس ترقص على سطح أنهارها. 

 

·      الجنون هو الحرية المطلقة التي يمكن أن يتمتع بها الأنسان، فبدون الجنون لن تحصل أبدًا على راحة البال، أو على حرية فعل ما تحب القيام به دون أن تهتم بما يعتقد الناس.

·      المُعلم الحقيقي ليس شخصاً يُسمِعك ما تعرفه، أو يشجعك على كبت الرغبات فتصبح عُصابياً ومتعصباً ومكبوتاً، وإنما يجعلك ترقص وتتعرق من الرقص حتى ينفتح جمالك حينما يكون الجميع في كبت، لتذوقك طعم الجنون والحرية في لُب كينونتك،فهناك مركزك، وهناك جمالك الكوني وطفولتك البريئة التي سُلِبت منك خلف الرداء الهش الذي يحوي في طياته المثالية والعقلانية المزيفة التي ترضي بها ذاك وذاك.

 

·      اللحظة التي تجد فيها فيروسات مُعدية، امسحهم بدون أساليب التواضع والخنوع والمضادات الحيوية القديمة التي فشلتّ. فأنت تحترم منزلك أكثر من ذاتك، فمنزلك لا تُدخل به من يزعجك، ولكن منزل ذاتك أصبح حانه، وكل من هب ودب يدخل ليتسكع فيها، وإن شاء كسر القنينات فيها بعد الارتواء منها، ثم تؤتي ذاتك المستعبدة لتنظف فعل الفاعل في كل مرة، ولا تطرد الفاعل نفسه. فتعلم كيف تطرد من لا تهواهم في حياتك بقوة وبدون خجل، أو أن تفضّل الخجل وتظل تمسح دماء ذاتك في كل مرة، حتى تنفد دمائها، وهنا لا تلُم أحداً غير الأيادي المستعبدة. فلا المناديل تمسح دموعك بالحقيقة ولو بكيت لسنين!، ولا ابتسامتك المزيفة التي تُخفي الألم في باطنها ستُضَمّد جروحك. 

 

·      لا يفهمني أحد إلا سبعة (7) فقط: - المتأملين العميقين جداً - الشُعراء المتفتحين - الفنانين العاطفيين - الرسامين بالحب - الموسيقيين بفن روح العزف - الممثلون بحب وذوق على المسرح - والباحثين بفكرً حر

 

·      الهوية عُكاز العقل، وهي ليست أكثر من حقيبة مُتسول جمعت بقشيش الفكر المختلط بالهراء من الخارج منذ الطفولة، لتصنع هوية أنسان لا يعرف عن نفسه شيء. فإذا أراد أن يُعبر عن نفسه بحث عن اقتباس في حقيبته الممتلئة، لتصف له من هو.

 فبدون التأمل لن تعبر إليك الحقيقة. وإن عبرت الحقيقة بالتأمل!، لسقط المتسوّل العجوز والعُكاز. فهناك تتواجد النيرفانا، ولا تلمس النيرفانا أي جباناً يبحث عن هويةً ليختبئ خلفها. 

 

·      ينتظر البشر الأعياد بفارغ الصبر، لأنه اليوم الوحيد الذي يتعانقون فيه.

 

·      السماء الصافية لا نهاية لها. مهما نظرت لها ستراها على شكل لوناً أزرقاً لا نهاية له. وإذا نظرت للغيوم فستراها تتحرك بلا توقف، كما كذلك الوعي، فهو سماءً صافية لا نهاية له، أما العقل كما الغيوم، يتحرك بلا توقف، وإذا هاجت الغيوم، اصطدمت ببعضها وسببت اضطراب وبرقً ورعداً.  

 

·      ذاتك تائهة وجائعة وتود أن ترتوي بالحقيقة، فعقلك قد أكل كل الأطباق من أفواه ذواتً تائهة. فشبع بالهراء وتقيأ في فكرك وعواطفك لتصبح ملوثة. أذهب إلى ما هو أعمق من أعماق البحار، وما هو أعمق من العمق نفسه، فهناك ذاتً جائعةً ترتوي بالانتباه، فالانتباه يوقف العقل. فكل ما زاد الانتباه!، كل ما أحتضر العقل محاولاً استنشاق أنفاسه الأخيرة. فإذا اشتعلت شمعة الانتباه وشبِعت الذات!، هنا يمكنك أن تحتفل بجنازة موت العقل. فالجنازة الوحيدة التي يكون فيها الفرح، هي جنازة موت العقل، فحينها لن تكون المعاناة بعد اليوم. فقد تحررت.

 

·      أنا هو الجوهر الصامت، والوجود هو المستمع الصامت. ففي عزّفيَ الصمّت، وفي الوجود السكون، فلا تنتظر الألحان. أجلس في صمت مراقباً ومتغزلاً بالسماء، كما يتسكّع القمر ليلاً متغزلاً بالنجوم. فقد اغمضتُ عيناي يوماً، وفجأةً فتحتها لأرى أن الوجود ظل يتحرك مثل الأمواج. هل أنا الأمواج؟ ام الوجود تحول إلى أمواج؟ ولكن لا حاجةً للسؤال، فالإجابات ساذجة، فسأدع الأمواج تتحرك، وسأدع البحر يُظهر الزبد في سطحه. ففي الأمواج تكمن الرقصة، وفي البحر تكمن الموسيقي. أما في أعماق البحر يكمن السكون، وفي السكون الإجابة، وفي الإجابة الصمت، وفي الصمت الحِكمة، وفي الحكمةِ قدفتاً إلى الجوهر.

 

·      أنظر إلى عيناي في صمت كلي، فلا حاجة للكلام. ودعني أتواصل معك بلا لسان أو شفتان، حتى ينبض قلبي وقلبك في الوجود. حتى نتعرف على الحب الذي لا مُكر فيه، والذي لا تكون فيه الأجساد. فدع القلب ينبض، ودع الروح تسبح، ودع الوجود يرقص. فليس في وجهي ولا جسدي شيءً مميز. ولكن قلبي يرقص بلا توقف مع كل نبضة، ومع كل ورقة شجرة تضربها الرياح، ومع كل العيون البريئة الشبه نائمة، ومع كل أصوات الحطب التي تحترق في النيران، ومع الغيوم التي تضرب بالرعد والأمطار، ومع الوجود الذي يرقص بلا توقف. فإذا أدركتَ رقص قلبي في الصمت!، سترقص رقصة الأبدية، وستكون بحبك محمياً من الحقد الذي وُضع في مقدمة سهام الغاضبين. فمهما وضعوا السهم في القوس لكي يُرمى، فلن تصيب قلوب الراقصين في الوجود. وإن أدركت رسالة عيناي بوضوح!، فحينها تصبح أنت الماستر. وأنا التلميذ.

 

·      الشيء الذي يجعل من الصمت بوابةً لرفع الوعي!، هو أنه خالي من أصوات البشر المزعجة.

 

·      الفرق بين الحقيقة المطلقة والحقيقة السائدة، هي أن إحداهم تدافع عنها بقوةً لكي تثبت صحتها لأنها ضعيفة وتحتاج الدعم ولو بالقوة والجهل. والأخرى لا حاجة لك بالدفاع عنها لقوتها المطلقة. فالأسد لا يحتاج من يحميه، أما القطة تحتاج ذلك لضعفها. ومهما أطعمتها وحفّزتها تظل ضعيفة.

 

·      الأراضي التي لم يمشي عليها الفلاسفة، لا تُنبث بذور الفكر والعشق في ترباها.

 

 

 

·      اه منك ايه الوجود، فقد سحرت عيناي فجمّدّتها بجمالك، اه منك أيها الوجود، فقد أصبحت خفيفاً مثل الغيوم التي تدفعها الرياح بسلاسة، اه منك أيها الوجود حتى انتشاءك لا يقدر اللسان على وصفه. فبين الرأس والسرة يوجد شيء يدق على باب الذات، فلعل النائم يستمع للطارق. فتوقف الطارق للكثيرين ولا يزال النائم نائماً. ففي سرة الولادة يتمحور كل شيء، وفي الصدر يطرق الطارق بطرب، وكلاهما يشكلان رقصاً متناغماً، كالشمس التي في منتصف الكواكب ترقص وتدور. والكواكب ترقص حولها لملايين السنين دوراناً ورقصاً بلا تعب ولا دُوار.

 

·      الظلام ليس شيئًا يجب إنكاره، أنه شيء يجب أن تعيش فيه بوعي وبدون خوف، حتى يظهر من خلاله نور الوعي. وعندها ستعرف أن الظلام عديم اللون.

 

·      ابد، فمنّ لا يحدّه الزمكان لا يجلس بين الجُدران والحدود.

·      ولا تبحث عنه بترداد نصوص كتاب ما مُقدّس، فالإله لا يُمكنّ أن يكون مجرّد حبّر مكتوب على ورق.

 

·      لا تتحدث مع الإله، بلّ إستمع لصمّته. ولا تبحث عنّه في الأرض والسماء، بلّ توقف أينما كُنت وستراه.

 

·      لا تبحث عن مُعلّم يمّنحك الشعور بالبهجة، بلّ إبحث عن مُعلّم يُحطّم بهّجتك الزائفة.

 

·      عندما ترى أن حبيبتك أو حبيبك تحوّل إلى إله، حينها تبدء في إدراك الإله الحقّ الذي كان غائب عنّ بصرك.

 

·      كُلّ من يُدافع عن الإله قولاً أو فعلاً، هو جاهلاً به.

 

·      عندما ينعتك المُتديّنين بالمُلحد! وينعتك المُلحدين بالحالِم الوهمي! إعلمّ حينها أنك على قُرب دِراعً أو أدّنى من الإله.

 

·      يتجلّى الإله في قلّب المُحبّ البريء اليقظ. فلو كان الإله فعلاً يتجلّى بكثرة السجود والتراتيل والصلوات! لكان المُتديّنون أول من أدركه.

 

·      لا يهتمّ الإله بثياب العفّة والطهارة البشرية، فلو كانتّ من إهتماماته! لما أنجبك عارياً من رحم والدتك.

 

·      لا يهتمّ معلّمك بإيصالك إلى إلاهك، بلّ يهتمّ بتدميرك وتدمير إلاهك العقّلى حتّى تتمكنّ من رُؤية الإله الحقّ خلف العقل والحواس والهلاوس.

 

·      يظهر الإله عندما يختفي الدِيّن والهوية، ويختفي عندما يظهر الدِيّن والهوية.

 

·      عندما تصبح غير محدد بالماضي، فإن تغيير كبير يمكن أن يحدث لك، فالحياة تحدث الآن! لذا توقف عن العودة للماضي.

 

·      إذا كنت معلم روحي عصري واجتماعي!، فسيفهمك الكثيرون، وسُيعجب بك الكثيرون. ولكنك ترى الموت في كل شيء. حتى جمال الحياة ينعدم في عيناك، فتصبح مظلمة. وإذا كنت مستنيراً. سيفهمك القليلون، وستكون كلماتك مبهمة وغريبة للكثيرين، وسيرونك ذو رغبات حياتية كثيرة، خصوصاً تلك المتعلقة في اللهو والاستمتاع. وسيستنار القليلون من خلالك. فالحقيقة لا تعبر من حواس الفكر المُخدَّر. فقليلاً من الذهب خيراً من مليون نُحاس. ومهما قمت بتنظيف النُحاس وطليته، فلن يتحول إلى جواهر، ومهما افسدت الجواهر، فلن تتحول إلى نُحاس.

 

 

·      اللحظة التي تفقد فيها هويتك ومن أنت، سينفتح لك بابً لم تكن تعتقد أنه كان موجود. فذلك هو باب الحرية والتحرر، باب الخلاص واللذة. وأحذر من الباب الذي بجانبه، وهو باب الرؤية الحادة، الذي يجعلك ترى تخدر فكر الاغلبية الساحقة وسُباتها العميق. فاحذر منه جيداً. فذلك باب يجعلك تود أن تغيرهم جميعاً لطريق الحقيقة، ولا يمكنك تغيير الجميع. وبمجرد المحاولة قد تسبب لنفسك المتاعب، فهذا خطأ ارتكبه اغلب المتنورين عبر التاريخ. فالكون سيكون به القطبين دائماً وابداً في كل شيء. فتنغم بالحقيقة، وضع غطاء دافئ فوق النائمين وابتعد عن سريرهم وكوابيسهم.

 

·      الجوهر يصيح جماله نوراً، وبينك وبينه مسافة مليون سنة. فلا يمكن للجسد أن يراه فهو جزء منه، ولا يمكن للعقل تخيله فهو محجوب عن الحواس. فلا ترى الجواهر غير العيون النائمة المتأملة، حيث يسقط رداء الريش الأسود عن الأكتاف، لتمسح مياه الروح ما تبقي على شاطئ العقل، حتى تختفي أنت الأنا، ويختفي الجسد والعقل. حيث تصبح اللاشيء، وفي اللاشيئ الكثير. وتلك لحظةً سوف يراك فيه الجميع غريباً. بينما أنت تسبح في عمق بحر عالم اخر. عالم الانتشاء والتنوير.

 

·      ظروف الحياة تشبه أمواج البحر الهائجة والهادئة، ففي كلا حالاتها يجب عليك عن تستلقي فوق بحرها بدون مقاومة. حتى تدرك أن الحياة لا هي إيجابية أو سلبية. وإنما حياةً متزنة، وظروفها نحن التي نصنعها، ونحن الذي نسبح ضدها. ونحن الذي نحرك أمواجها. استيقظ واخرج من هيجان البحر الهائج. واستلقي فوق سطحه. لتكون سيد الظروف، ومتناغماً مع بحر الحياة والكون.

 

·      لنسقي بذور الروح بلحن الحياة، ولنجعل البذور ترقص قبل نموها.

 

 

·      البشر مستعجله ومتوترة وتحب الاختصارات وكبت الرغبات، وكل ما يؤدي للانتشاء ينضرون له بازدراء، وفي أعماقهم يتمنوه. فكل معلم حبس الرغبات!، كان تأمله ألم، وأحلامه ممتلئة بصور ما قام بكبته، بينما يتظاهر بالتنوير وعيونه تقول عكس ما يقوله لسانه. فارقص وترنح ودعهم ينضرون ولا تخجل، اسهر في عمق الليالي وتلذذ بالحب وافعل ما تشاء إذا لم يؤدي المخلوقات الحية. استلقي على ظهرك في منتصف غابةً في الليل مع من تحبه ويفهمك، وانظروا إلى القمر والنجوم في انسجام. فهذا نوع من الحب الفخم قليلاً ما تراه اليوم. فما أجملك أيها الوجود. أين كنت غائباً عني وعن عيوني كل هذه المدة. فقد استلمت مفتاح أسرارك في سناً صغيرة، حيث لا رهبنةً في الجبال، ولا تقشفً في الصحاري، وهذه الهدية لن يقدر أي شيء أن يضاهيها في الفخامة والانسجام. وأنا هنا لكي أشاركها مع من يرى ويُبصر الأعماق من جيل الوعي الجديد. هذا هو منهجي الخطير، فل نجعلها رقصاً واحتفالاً وتأملاً ومرونة.

·      الحياة أجمل موسيقي، تعزف على أوتارها الروح

 

·      تنمو زهرة اللوتس في أعماق البركة، ثم تطفو على سطح الماء لتستنشق الحياة.فلا تجعل جذور عقلك تمسكك في أعماق بركة الظلام. حرر الجذور، واطفوا لأعلى الحياة، وستدرك أنك للتو بدأت ترى بوضوح لأول مرة.

 

·      كن مرن، إياك أن تتشبث بفكر متصل بهوية، فسرعان ما ستكون عبداً لها، وتصنع ضباباً أسود بينك وبين ذاتك الحقيقية.

 

·      عندما تكون في غرفةً يسكنها المؤلفون العظام على رف حائطك، حينها لن تجد الملل عند الجلوس بمفردك، ولن تكترث لجدالات المجتمع الخارجية والبعيدة عنك.

 

 

·      الطبيعة بداخلي، والكون يجري في عروقي، أما الأشجار فهي عشقي، والنهر تأملي، والوعي تنوري. فلم أرى السوء منذ أن أستيقظ العملاق الذي بداخلي، ومات العقل وورث الوعي ممتلكاته وأستبدلها بالتنوير.

 

·      سجنت عقلي في زنزانة رأسي، وجعلت الوعي حارساً عليه، حتى لا يتمرد وينقلني لأفكاره الخبيثة.

 

·      ستستمر البشر في تدمير بعضها البعض فكرياً وجسدياً ومادياً ومعنوياً. حتى يقضوا على بعضهم وترتاح منهم الأرض كلياً. لذا شاهدهم من بعيد، واخرج من غابتهم المحترقة حتى لا تحترق معهم.

 

·      لو لم يكن الكون صامتاً وبه صوتً وثرثرة. لما تأملتُ فيه يوما ولو لثانية.

 

·      منذ أن كنت طفلاً صغيراً لا اعرف شيء. كنت اسأل الكبار اسئلةً صعبة، حتى كبِرت وأدركت انني كنت اسأل أطفالاً بجسد كبير لا يعرفون شيء.

 

·      لا يوجد فرقاً بين النبيذ الأحمر والصمت والتأمل. فكلاهما يمنحان السكينة والحب بدون إصدار أي صوت أو كلام وثرثرة تنبعث منهم.
 

·      أن تكون أنت بكل تعفُنك وقُبحك!، خيراً من أن تتظاهر بهوية الجمال الزائفة المفروضة.

 

·      ليس كل شيء يجرأ على فعله من يدّعي الرجولة. فعندما كنت أبكي، كان الرجال يخافون من البكاء معي رغم ألامهم الداخلية. وذلك خشية أن يفقدوا رجولتهم المُصطنعة والكاذبة.

·      حقيقةً في معظم جُل طفولتي كنت أجلس في مقعد بمفردي في الفصل الدراسي لغرابة تصرفاتي، ولم أعلم أن خلف كل هذه الوحدة، سراً عظيماً ينتظرني عند البلوغ.

 

·      الفيلسوف الذي لم يدرس الفلسفة!، هو الفيلسوف الحقيقي. والمعلم الذي يجذبه الكون إليه عمداً وكرهاً بدون أن يبحث عنه!، هو المعلم الحقيقي والمختار عن قصد وعناية من ذكاء فوق بشري.

 

·      التاريخ والمستقبل وهم. استيقظ من سباتك وانظر للحقيقة التي حولك. والتي ستجعلك تدرك أن حتى حقيقة ما حولك هو وهم يبدوا حقيقي بدوره.
 

 

·      قالت لي: " أحببت عيناك ".

فقلت لها: " تلك هي الأمواج البحرية على السطح ويراها الجميع. ولكنها ليست الحب الحقيقي للأعماق الذي في بطن البحر البعيد عن الأمواج الظاهرة والسطحية في قمته.

 

·      ترحل الروح، ويرتاح الجسد من الأمراض، ويبكي الجهلاء على الجثة التي لا روح فيها ولا كياناً يُحرّكها

 

·      لا أخاف على البشر من أي شيء، ولكنني أرى في طبيعتهم غريزة العنف. لهذا أصر على أن غريزتهم ستكون سبباً في إنهاء وجودهم يوماً ما.

 

·      هناك نهاية لكل بداية. وهناك بداية لكل نهاية

 

 

·      لا تبحث عن السعادة في الحياة، فهي متواجدة في الباحث نفسه

 

 

·      لن تختفي بذور الشر، ولن تختفي بذور الخير، ولكنك ستكون مزارعاً لأحدهما، وقد تسقي كلاهما.

 

 

·      لا تثق في ابتسامة بعض من يدّعون انهم مُعلمين. فكم من شجرةً جميلة، ولكنّا ثمارها سامّه.

 

 

·      لا تختفي بحُجة أن يشتاقوا إليك، فالموتى يُنسَون بعد موتهم ببضعة شهور.

 

 

·      تدفق مع أنفاسك عندما تصيبك صدمة، فهي المُعلم في كل الأزمات.

·      إذا شعرت بالغضب اغضب، وإذا شعرت بالفرح افرح، فتلك هي حالة المتنورين والأطفال الأبرياء فقط

 

 

·      ضع الحب على يمينك، وضع التأمل على يسارك، لأنهم سيصبحون أجنحةً يُحلّقون بجسدك إلى الأعلى.

 

 

·      العقل ليس أكثر من غيوم تحركها رياح الأفكار. فلا تنسى أنك الشاهد وليس الغيوم والرياح.

 

 

·      الوفرة هي بهجة الجسد، والتأمل هو جوهر الروح، والحب هو مفتاح القلب، ومحاولة تفضيل أحدهم على الاخر، يؤدي إلى هلاكك كلياً.

 

·      ستظل الحقيقة دائماً غير مرحب بها، كعدم ترحيبك بالموت، رغم معرفتك بأنك تقف في صف من رحلوا قبلك.

 

 

·      كلما انظر لجدية تزمت البشر، اشعر بالامتنان لحريتي وعدم اكتراثي لهويتي.

 

 

·      مارس ما شئت من طقوس، فلن تلمس التنوير، ولكن أن جلست صامتاً في سكون! فهنا ربما أغير رأيي.

 

 

·      لا تبحث عن الهدوء وسكون العقل، فقط كن كذلك الآن! وهذا كافي.

 

 

·      استسلمت للوجود حتى انفجر العشق بداخلي قائلاً "أنت تستسلم لأنت، ولكنك لا تدري.

 

 

·      لا يوحد سراً في انتشار الجهل والجاهلية، لأنه من خلال تخويف بسطاء البشر من الفلسفة والتأمل، ينتشر الجهل وتموت الحكمة، وتتوقف بدور المفكرين من النمو في الأراضي الخصبة، لتتحول إلى ارضاً يابسة. وإذا حدثت طفرةً جينية لتنبُت بذرةً ذات غصون خضراء!، لغارت منها الأشواك اليابسة، وغطت أوراقها. ولكن سرعان ما تمر السنين، وتنمو الشجرة ويشتد عودها، لتصبح بحجم النخلة العالية، لا يقطف منها إلى من أجتهد في محاولة صعودها، وتبقاً رمزاً لمحي الجهل والأُمية بشجاعةً وبصوت الحق، ممزقةً الأساطير، ومستردةً للروح ذاتها، ومصلحةً الأراضي اليابسة من أساطير العادات والتقاليد الميتة.

 

 

·      لا يمكنك تغيير قوانين الطبيعة لكي تناسب اعتقادك الشخصي، بل أنت الذي يجب أن يغير اعتقاده الشخصي ليناسب قوانين الطبيعة. 

 

 

·      لا يوجد معنى للحياة، لا يوجد معنى للمنطق، لا يوجد معنى لأي شيء، فقط اجلس وتأمل في صمت كلي، حتى ينفجر في عمقك شيء أعظم من المعاني والتفكير. 

 

 

·      الحب والتأمل، لا يقدر عليهما الجميع، لأنهما سينزعن جواهره الرخيصة كالمنطق والعقلانية والسُمعة والشخصية ومفاهيم الخطأ والصواب وقيود الفكر المحدودة، وتضع مكانهم تاج الفكر الحر، فيصبح معلماً متحرراً بلا سابق إنذار، ولحناً يعزف في قلوب المحبين بدون ألةً او أصوات. 

 

 

·      من السهل أن تكون قائداً في البداية، ولكن ليس من السهل أن تُحافظ على قيادتك حتى النهاية.

 

 

·      لا تسأل عن الحياة بعد الموت، فأنت لم تولد بعد لتحيا او حتى تموت.

 

 

·      لا تبحث عن مُعلم يريك الطريق، فقط ابحث عن ذاتك، وسيظهر المُعلم والتاو.

 

 

 

·      الحقيقة التي يمكن كتابتها او النطق بها، هي ليست الحقيقة المطلقة.

 

 

·      بداخلك حبة صنوبر، بداخلك طارق يطرق ويقذف فيك دماً، الحق اقول إنه هناك وهناك.

 

 

·      لا تطلب مني المساعدة، فقط أجلس واصمت، وبذلك تكون قد ساعدت نفسك والعالم.

 

 

·      كل مقاومة تولد المعاناة، وكل معاناة تولد المقاومة.

 

 

·      السماء لا تتحدث ولا تنطق، فتوقف عن التسول منها بشفتاك وصوتك.

 

·      من يكره غيره، فإنه يكره ذاته التي في غيره.

 

 

·      انت لست ذكر ولا أنثى، أنت لست اي أحد، ولأنك لا أحد، فإنك الكل، ولأنك الكل، فإنك لا أحد.

 

 

·      الجميع يهرب من المعاناة، والمتأمل يراقب المعاناة وهي تهرب.

 

 

·      لا تؤمن بل ابحث، لا تهرب بل راقب، لا تحاول بل كن، لا تفكر بل تأمل

 

·      كل شيء تبقى معه طويلاً ستتشاجر معه، أولها نفسك، وثانيها غيرك.

 

 

·      الحب فستان الحقيقة، والوعي تاجُها، والذات هي التي ترتديها.

 

 

·      لا تستمع لحديثي، بل استمع للفراغ الذي اسحب فيه شهيقاً وزفيراً بين الجُملة والأخرى، تكون أدركت جوهر التعاليم.

 

 

 

·      المُعتقد الذي يسبب لك الغضب إذا ما تمت إهانته، فهو ضعيف جداً ويحتاج حمايتك.

 

 

·      الحب هو الشيء الوحيد المقدس ولا شيء سواه.

 

 

·      تصلّ إلى الحب والغبّطة الداخلية، عندما لا ينشغِلّ عقلك بالسياسة والأديان والإعلام.

 

·      إختر المُثقفة الحُرّة، والفاتِنة جسدياً، والرحيمة عاطفياً على حدّ سواء بلا تمّييز أو تفريق. حتّى لا يتعجّل عقلك الشعبي فيُحبّ فقط ذو المُؤخرة الكبيرة، فيُصدمّ عقلك في الغدّ عندما يُدرك أن جهّلُها ومشاكلها أكبر من مُؤخرِتها.

 

·      لا تبحث عن الإله والذات والحبّ والجنة في المساجد والكنائس والمعابد، فقط كنّ حاضرًا يقظ الحواس مُنفصلاً عن العقل، وسيتجلّوا جميعهم في صورةً واحدةً فيك.

 

·      لا تُحاول أن تُحرر عامة الرُعاة من قيود فكّرهم بإسم التنوير، لأنهم سيبّصقون على رسالتكّ وأنت حيّ، ثم سيُسبّحون بإسمك ويتبرّكون بتمّثالك الحجري الرخيص بعد موتك.

 

·      كنّ ذكياً وشُجاعاً، ولكنّ لا تكنّ شُجاعاً فحسب.

 

·      استمع إلى الصمّت، فالصمت هو لغة الإله الوحيدة وهو تجسُده الوحيد.

 

·      لا تُنادي الآلهة بإسم "هو" أو "هي". فقط أصمتّ ولا تُنادي، حينها يظهر الحق الذكوري، وتظهر الحقيقة الأنثوية.

 

·      البكاء ثلاثة أنواع: بكاء الفرّحان، وبكاء الحزين، وبُكاء المُتنور.

 

·      قد يموت جسدك بعد ثانية أو بعد دقيقة، فاجّعل كل لحظةً في حياتك رقص وحبّ وإنسانية ورحمة وانسجام. ولتمُتّ حينها في نشوة التنوير.

 

·      كأس نبيذ أحمر قديم وعتيق وحلّو المذاق، رمال الشواطئ المُبلّلة، قُبّلةً من حبيبتك الجميلة، شمس الغروب البُرتقالية،  عودة النوارس إلى بيوتها، رائحة الليل تطّفوا فوق البحر الساكنّ بلا أمواج، كهوف العارفين إشتعلتّ بالشموع اللطيفة في منتصف الجبال، تجلّي الآلهة في كلّ حدّب وصوّب، أليست هذه هي النعمة المقدّسة يا ذوي القلوب الرقيقة ويا ذوي الألباب

 

·      أنا مُعلّمك والماستر لكّ، ولكنّني لسّتُ قدّيسك ورجل دينك، فأنا أقلّ شأن من قُدّاسك، فليس في جُعّبتي شيء يُعطيك وعدًا بجنّةً ما بعد موتك، وليس في قلّبي غُلّ وغضب عليك لأُهددّك بجحيم بعد رحيلك. 

 

·      لا تتّبع خُطواتي في الطريق، بلّ إتّبع حدّس أقدامك فهي الطريق بعينه.

 

·      الأخلاق إذا لم تأتي من الداخل، فسوف تسبب الكبت والفوضى والفرض والكره.

 

 

·      الحروب والقتل، ليسوا إلا دلالةً على تعاسة الأنسان الذي يدّعي أنه أكثر المخلوقات حكمةً ووعياً.

 

 

·      فقط اجلس في تأمل عميق، ولكن لا تحاول التأمل ولا الجلوس.

 

 

·      الأنثى سلاحها الشتم باللسان، والذكر سلاحه الضرب والحروب، والطفل سلاحه البكاء طمعاً في الرحمة، والمُعلم سلاحه الصمت في هذه الغابة.

 

 

 

·      إذا جلست معي فكن مستعداً لنسيان كل شيء تعرفة وتعتبره مُسلّماً به، لأنني سوف أقذف بك لكل شيء لم تعرفه مسبقاً.

 

 

·      كل المعتقدات تخبرك أين كنت! وأين ستذهب! ولكن أنا أخبرك بمن أنت!

 

·      الحقائق لا يمكن أن تكون جماعية، ولكنها كانت وتكون وستكون فردانية وخاصة للخاصة.

 

 

·      نحن موجودين في حلم الوجود. فالوجود يحلم بوجودنا.فيُظهر لنا مشاهد حُلمه من خلال حواسنا، ونرى مشهد حُلمه من خلال العيون الخارجية. ووضع سره في عيننا الداخلية “العين النائمة". فإذا إستيقظَتّ تلك الداخلية، استيقظ المرء من الحلم.ولن يُدرك الحالم انه يحلم إلا بعد ان يستيقظ.

 

·      لا تُقاس قيمتك في المحكمة الكونية بأفعالك واقوالك، ولكنها تُقاس بنواياك، فيمكنك النفاق والخداع في القول والفعل، ولكنك إذا تمكنّت من خداع النوايا فحينها سوف أكون من أول الساجدين لك.

 

 

·      العالم كله عبارة عن شر، إذا كنت تتفق معي في هذا القول، فيجب أن تجلس معي وتسمح لي بكسر كل ما تعرفه في عقلك عن العالم.

 

 

·      لا شيء يحدث بالصدفة، الصدفة هي كلمة يستخدمها غير العارف بالكون والوجود ليس إلا.

 

 

·      كلامي واضح جداً وسهل، فقط لأولئك الذين سوف يؤتون بعد ألف عام. أو أولئك الذين قضوّها مسبقاً.

 

 

 

·      المناظرات ليست أكثر من غرفةً يقف فيها شخصين متفرغين للجدال. وما جدالهم إلا بسبب إيمان أحدهم بخرافةً مختلفة عن خرافة الأخر الذي يجادله.

 

·      لا شيء يموت وينتهي، فكل شيء يتجدد، فتجدد قبل أن تتجدد في الجلد والعظم والدم. فتجدد الجلد والعظم والدم جهالة، وتجدد الوعي فناء لا محالة.

 

·      المعاني والتعريفات ليست إلا عراقيل تمنع الرؤية الواضحة والجلية، لأن أي شيء تعطيه اسماً وتعريفاً ومعنى! سيجعلك تنظر لشكله السطحي فقط من خلال تعريفك له. ففي اللحظة التي تم فيها وضع معاني وتعريفات للذكر والأنثى! هي نفس اللحظة التي تم فيها التفريق بينهم رغم تظاهرهم وادّعائهم بالمساواة. وذلك كان مشروطاً بتعريفهم ومعناهم الذي ابتدعوه بناءً على الصورة الظاهرية التي يرونها بأعينهم، والتي بدورها ترى إلى ما هو محسوس وسطحي فقط.

 

·      التأمل نوعان: أحدهم فلسفي، والأخر روحي. أحدهم يُسّكتّ العقل، والأخر يجعله يثرثر.

 

·      إذا كان قوّلك يجمع الحشد الكبير من البشر حولك، فاعلم أن قولك مألوف لهم، ولا ينفع في تقدّمهم البتّة.

 

·      أشهدُ أنّي بلغّتُ من الجنون النادرّ، ما جعلني أرقص في منتصف الجحيم التي أسفل أقدامي، وأمرح في عقّر الجنّة التي فوق رأسي.

 

·      لا تفعل الخير طمعاً في الجنّة، ولا تكنّ رحيماً طمعاً في الهروب من الجحيم. فقط كنّ أنسان لا ينتظر نتيجةً من أفعاله ولو لمرّةً واحدة. وحينها قدّ تُصبح أنسانً متنوراً لا بشرياً متسوّلاً. 

 

 

 

·      تبدأ أعراض السوداوية عندما تنشغل بالواقعية المحسوسة. وتبدأ أعراض الوهم والتعصّب عندما تنشغل بالميتافيزيقيا المُسبقة الاعتقادية الغير محسوسة. وتبدأ الحقيقة في التجلّي عندما تتجاوز كِلاهما.

 

·      لا تختلف الحقيقة عن طائر البوم. فكلاهما قادرين على التحّليق في النور والظلام بطلاقة.

 

·      محاولة التواضع أو التكبّر، تجعلّ الأنسان مُنافقاً في كِلا الحالتين.

 

·      يظهر العبث عندما نجّهل الأسباب. ويختفى تارةً عندما نُدرك أحد أسبابه.

 

·      أخرج من لُعبة التكاثر، وعشّ حرًا طليقاً بلا مسؤوليات إضافية. فإنجاب الأطفال يُعرقل مسيرة إدراك الذات والحرية الجسدية.

 

·      عشّ في سعادة، ومُتّ بسلام. فالأغلبية النائمة لا تمّتلك إحداهما وتخاف من الأخرى.

 

·      ابتهج كلّما ظن البشر أنك مجنون وغريب. فكلّما أزداد ظنّهم، كلّما إقتربّتَ من الجوهر المهجور.

 

·      كنّ مع الصمّت بقدر كونك مع الصخبّ بشكل متوازن. فحينها ستعرف معنا الجنون الذي أتحدث عنه.

 

·      يتواجد الوجود في كلّ الموجودات. وكلّ الموجودات تحّمل صِفات الوجود.



·      استمع إلى اللغة الأم لكل اللغات. إنها لغة الصمت الأخرس. فهي لغة الوجود التي لا لسان لها. وتنطق بداخل كينونتك على هيئةِ حدّساً لا يُخّطِأ.
 
 

جميع أشعار (


******* نضال الهمالي *******

 

 

 

 

(1)

 

 

 

غاب النور وحَضَرَ الليل المُنتظر

 

وأرتدى قلبي رداءه المُعتاد

 

ففي ظلامه جمالاً مُنهمر

 

وفي نجومه مدخلاً لكل الأبعاد

 

إرتدي رداء الرقص واستعد للدوران

 

وافتح يداك وانسي ما هو اتي وما بالأمس كان

 

ومُد لي يداك لنغادر الأحزان

 

فالتأمل وحده هو الصالح لكل زماناً ومكان

 

 

----------------------------------------------------------------

 

(2)

 

 

 

ناديتُ من أنا! فلبّت سهام الحقيقة

 

تاركةً دماء زيف الأنا يسيلّ

 

ليظهر الجوهر كاللؤلؤة العتيقة

 

لتدمع عيناي فرحاً ترحيباً بحضور الدخيلّ

 

 

----------------------------------------------------------------

 

(3)

 

 

 

لمستُ سكينة المحبوب

 

وفُتح ما كان عن بصري محجوب

 

وأدركت أن الجسد ليس أكثر من شيء مركوب

 

حينما اختطفني مني بكل ما حملته يداي من ذنوب

 

كعاصفةً ضربت كأس أناي الذي بالجهل كان معيوب

 

لتُسقطها أرضاً وتجعل مائها في بحر العشق مسّكوب

 

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(4)

 

 

 

تسقط الأمطار في تسارع

 

وكل قطرةً تحمل في طيّاتها سر وجودها

 

والعين من الشُرفةِ لهطول الأمطار تُتابع

 

للقطرات التي تُغدي الأغصان لتتفتح ورودها

 

وتلك الأيام قضيناها في استسلام للوجود

 

بعد أن شرِبنا من كأس الحقيقة الموعود

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(5)

 

 

 

رميتُ هويتي وحرقتُ معتقداتي

 

وعندها وجدتُ الطريق الذي كنت أبحث فيه عن ذاتي

 

ففي قلبي عاشقاً يراقب الكون في صمتاً وسُكون

 

فالصمت والكون وحدهما بهما سر الوجود المكنون

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(6)

 

 

 

أتيتكم بالتأمل وليس التعلم

 

أتيتكم بالصمت وليس التكلم

 

فلا تُطالبني بالموعظة، بل اسألني عن الطريق

 

فالموعظة سطحية، أما درب أهل الطريق عميق

 

فاجلس بسكون وراقب عقلك المجنون

 

حتى يفيض عبيرك ويظهر جوهرك المكنون

 

فحينها ستدرك أن جسدك هو شيئاً مسكون

 

وأنك ذاتً بشكل طيفاً تسبح فيه في سكون

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(7)

 

 

 

كانت ليلةً فيها صفاء ناصع

 

حين رأيتُها تمشي بتمايل في شارعً واسع

 

فمشيت مسرعاً لنورها الساطعّ

 

متحرياً مصدر هذا البريق المنير اللامعّ

 

وكانت عيناها شُعلةً وكأنها منارة

 

حتى كِدْتُ أن أخلِط بين نورها ونور الاستنارة

 

تاركةً في خطواتها عطراً مختلطاً بالياسمين والنوارة

 

متسبباً رائحته في حقد الناظرين والجارة

 

حتى أعادت لقلبي نبضه بعد أن كان صلباً كالحجارة

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(8)

 

 

 

خرجتُ من الحانةِ أردد أسمها في ذاتي العاشقة الولهانة

 

ولم أنسَها رغم ارتواء روحي من النبيذ حتى اصبحتّ سكرانة

 

 

 

إلى أن أصطدم جسدي بمن كنتُ أردد حروف أسمِها في قلبي،

 

فهل بلغت السُكر حتى أصبحتُ أُهلوس!

 

ام بلغتُ من العشق ما صنع سرعة التجلي في دربي

 

 

 

فقالت بشفتاها الملونة بأحمر الشفاه اللامع:

 

هل اشتقت لي، أم أنا الذي اشتقتُ إليكَ

 

حتى أجد جسدي قد أرتطم بك وسقطتُ بين جنّبَيكَ

 

فإني أترنح عشقاً وشفتايَ توَدّ أن تلتصق بشفتيكَ

 

بعد أن ُتمسك أصابعي بقوةً في مرونة معصميكَ

 

وإني أعلم عشقك للنبيذ الذي تسبب في احمرار وجنتيكَ

 

 

 

فقلت لها بقلبً ينبض حتى كاد أن ينفجر من سرعة النبض:

 

توقفي عن سرد الجمال فإن جمالك يزيد من سكّرتي سَكرى

 

فإنني قد كتبتُ في جمالكِ شعراً تُمسكهُ أصابع يدي اليُسرى

 

فتعالي معي فإنني لعنت الدنيا وما فيها منذ أن رأيتكِ

 

وحضني كان مقبرةً قبل أن يسحبك اليه ويضُمكِ

 

وها هو معصمي يرتعش شوقاً للمس معصمكِ

 

بعد أن غَدَى قلبي يحلم بصوتكِ وفي كل ليلةً يسمعكِ

 

 

 

يا أيها الفلاسفة في هذه الحانة استمعوا لكلماتي

 

فقد وجدت توأم روحي الذي كانت تبحث عنه ذاتي

 

وها أنا هنا أُقبّل شفتاها الحمراء قبل مماتها ومماتي

 

فزدني كأسً اخر أيها النادل مادام بعيداً موعد وفاتي

 

حتى اثمل بالنبيذ الأحمر الدمّي الذي أبهج حياتي

 

فالأيام طويلةً ولم يجمع بعدُ جامع الاجساد رُفاتي

 

فقد استيقظ الحب وأيقَظني من وهمي وسُباتِ

 

 

----------------------------------------------------------------

 

 

(9)

 

 

 

يا ظلام الليل قل للصباح

 

كم تهوى لقاء شمسِه يوماً

 

ويا قلبي قل لصوت النواح

 

اتخذ لك الصمت صوماً

 

 

 

فحزن ساعة لا يُعادل فرح أعوام

 

بل غير دائماً كرؤيا الحالم في الاحلام

 

ولا يترك إلا ذكرى تكتُب عنها الأقلام

 

معبرةً عن حدثٍ انتهى وانتهت معه الآلام

 

 

 

ففي ذاتك الذاتُ يكمن الجواب

 

فما الحاجةُ لجواب المتحدثين

 

وأنت الخطأ وأنت الصواب

 

بل أنت أنت، وأنت خير العارفين

 

 

 

ففيك الجنان وفيك الجحيمُ

 

بل فيك الملاكُ والشيطان الرجيمُ

 

ففيك الجنان وفيك الجحيمُ

 

بل فيك الملاكُ والشيطان الرجيمُ

 

 

 

تضخّمَت الحكمة فصعُبَ شرّحُها

 

ومَلَئَتّ الكؤوس ليصعُبَ ملؤُها

 

فسماعُ الحكمة ليس مثل أكلِها

 

والظُفران بها مختلفاً عن قتّلِها